سياسي يتذكر الحلقة التاسعة عشرة
9 ايار 2014
المصري يتحدث عن تحديات واجهت الملك في بداية عهده
محمد خير الرواشدة
عمان- يواصل رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري شرح أبرز التحديات التي واجهت جلالة الملك عبدالله الثاني في بداية عهده، ويستزيد في الشرح عن أخطر ما في تلك الظروف الإقليمية على المملكة.
ويؤكد المصري في حلقة اليوم من سلسلة حلقات "سياسي يتذكر" التي تنشرها "الغد"، كيف أن مثلث تحديات: الحرب على الإرهاب بعد أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، والتي سبقها اندلاع الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية، واحتلال الولايات المتحدة الأميركية للعراق، شكلت "سورا كبيرا" أمام عهد الملك الجديد.
ويوضح المصري أن عهد جلالة الملك الشاب جاء في نهاية قرن، وبداية قرن جديد، وهناك تعرفنا على نوايا ومواقف الملك السياسية، ومدى انفتاحه على قضايا وأمور داخلية وخارجية.
ويضيف بأن انتقال السلطات الدستورية من الراحل الحسين بن طلال للملك عبدالله الثاني، ومن دون أي أخطاء أو تأخير أو تباطؤ، جعلت الملك نفسه يتعرف على إدارة الدولة بشكل قريب ودقيق، مشيرا إلى ما يملكه الملك من قوة ملاحظة وسرعة بديهة، سمحتا له أن يحيط بالمشهد العام، ويعرف مواطن الخلل، ومرتكزات القوة في الدولة الأردنية.
ويؤكد المصري في نفس السياق أن التحديات الإقليمية التي أثرت على المملكة في مطلع عهد الملك الشاب، شكلت العقدة التي وُضعت في طريق الإصلاح الشامل، الذي دعا إليه جلالته منذ أول يوم تسلم فيه سلطاته الدستورية ومسؤولياته.
وكان المصري كشف في حلقة أمس من "سياسي يتذكر" بعض تفاصيل غداء سياسي، على شرف جلالة الملك في منزل رئيس الوزراء الأسبق مضر بدران، وكيف جرى هناك حوار سياسي ساخن حول مسألة إغلاق مكاتب حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في عمان، وإبعاد قادتها، وكيف أن بعض الجالسين خالف القرار أمام جلالته.
كما تحدث عن أن مثل تلك اللقاءات، التي حرص الملك على عقدها بشكل دوري في منازل رؤساء الحكومات السابقين، قد انقطعت بعد ذلك الغداء، مشيرا إلى أن "بعض البطانة" بدأت تؤثر في إقصاء المخالفين للرأي والقرار الرسمي، وبدأ التعامل معهم كمعارضة، وهو ما أثر على علاقة المصري وغيره من رؤساء الحكومات السابقين بالقصر.
ويبدأ المصري اليوم لكن من دون أن يُنهي؛ شرح أسباب تراجع مساحة القرار السياسي أمام نفوذ الأمني، وهو ما جاء في سياق السعي لتقليص هوامش الخطأ، في أي قرار سياسي، أو اجتهاد في غير مكانه، قد يؤثر على ضعف الجبهة الأمنية واستقرارنا الداخلي، الذي تميزنا به.
ويؤكد المصري اليوم على انشغال مستويات القرار الرسمي في مطلع القرن الجديد والعهد الجديد، بمحاولات تحييد المقاومة الفلسطينية للاحتلال الإسرائيلي، والتي عادت تنشط من جديد بعد اندلاع مواجهات الانتفاضة الثانية في نهايات عام 2000، من تهمة الإرهاب.
ويقول المصري لقد أصبح هناك تداخل، في المفاهيم حول مقاومة الاحتلال عند الشعب الفلسطيني، والإرهاب الذي مارسه متشددون ضد مدنيين عُزل في مناطق مختلفة من العالم، وهذا أمر أشغل مستويات القرار الأردني، وكان هاجسا مهما لدينا أن لا تدخل المقاومة الفلسطينية من جديد على قائمة الإرهاب الدولي. وينتقد المصري اليوم ياسر عرفات في دعم الانتفاضة بالسلاح، مضيفا "أبو عمار أرادها أن لا تكون سلمية، أي بعكس ما كانت عليه الانتفاضة الأولى؛ انتفاضة الحجارة، وهذا خطأ ارتكبه عرفات؛ وهو عسكرة الانتفاضة إذا جاز لنا التعبير".
وحول المبادرة العربية للسلام التي أقرت بالقمة العربية في بيروت 2002، أشار المصري إلى أنها "صياغة أردنية"، مؤكدا أنه قرأ صيغتها قبل أن تُقدم، وتعطى للمملكة العربية السعودية، والتي بدورها قدمتها في تلك القمة.
وعن رأيه في مضامين المبادرة يقول المصري: بقيت المبادرة العربية للسلام وثيقة عربية تحرج الإسرائيليين، وتعري موقفهم أمام العالم، بعد أن كسر العرب حاجز الصراع، والنزاع العربي الإسرائيلي، وتقدموا بخطوة كبيرة نحو السلام.
- قبل أن نبتعد أكثر عن بداية عهد جلالة الملك عبد الله الثاني، فقد كان مطلع عهده مليئا بالتحديات الحدودية والإقليمية، وحتى العالمية، التي شكلت تحديات للمملكة في أول عهده، فقد جاءت أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ومن قبلها اندلاع الانتفاضة الثانية في فلسطين، وبعدها الاحتلال الأميركي لبغداد، كم أثرت هذه التحديات علينا أردنيا؟
-نعم؛ لقد تسلم جلالة الملك سلطاته الدستورية نهاية قرن، وبداية قرن جديد، وفي هذه الفترة، تعرفنا على نوايا ومواقف الملك السياسية، ومدى انفتاح جلالته على قضايا وأمور داخلية وخارجية. لا شك بأن انتقال السلطات الدستورية من الراحل الحسين للملك عبد الله الثاني بشكل سلس، ومن دون أي أخطاء أو تأخير أو تباطؤ، جعلت الملك نفسه يتعرف على إدارة الدولة بشكل قريب ودقيق، فهو يملك قوة ملاحظة وسرعة بديهة، سمحتا له أن يحيط بالمشهد العام، ويعرف مواطن الخلل، ومرتكزات القوة في الدولة الأردنية.
من هناك، بدأ الملك يلتقي بشخصيات سياسية ونيابية، من خلال قنوات عادية، منها السلك العسكري الذي ينتمي له أصلا وانخرط فيه بكل اهتمام وجدية، وعلاقاته الاجتماعية كذلك، التي تربطه بأشخاص من أصدقائه ومعارفه وزملائه، بالإضافة لاهتماماته الرياضية، التي كان يرعاها ويهتم بها، عندما كان رئيسا لاتحاد كرة القدم، وكان قد تعرف على شرائح واسعة من المجتمع من خلال نشاطه في هذا المجال، الذي يتصل بجماهير عريضة، نظرا لشعبية اللعبة، واهتمام الناس بها.
في تلك الأيام، كان لي اتصالات مع الملك، لكن ليس بأي صفة رسمية أو مناصبية، وكانت لقاءاتنا تأخذ أشكالا متعددة، إما من خلال الدعوات الرسمية في المناسبات العامة أو اللقاءات البروتوكولية، أو اللقاءات الشخصية، التي عادة ما كنت أطلبها إن كان عندي ما يجب أن أقوله لجلالة الملك في شؤون عامة، وقد كنت أنا وغيري من السياسيين حريصين أن نبادر في تقديم أي نصيحة لجلالة الملك في أول عهده، ونريد من تلك المبادرة أن يرتاح ضميرنا من حيث تقديم النصح، ولكي نكون فعلا داعمين للملك ورؤيته وسياساته، ولا نريد أن نكون أصحاب قول فقط.
وكان ظاهرا لي بأن روح الملك العملية، وعمله القيادي الميداني كعسكري، جعلته مُطلا بشكل جيد على المجتمع المحلي، بأدق تفاصيله، لكن ما كان يميزه بحق هو فهمه الاقتصادي والاستثماري، وكان فعلا اهتمامه الأول في الإصلاح الإداري، يهدف إلى تأهيل السوق الأردنية، وجعلها أكثر استقطابا للاستثمار، وكان موقفه واضحا بأن الإصلاح الاقتصادي بقطاعاته كلها، يجب أن يؤثر على معيشة المواطن بالدرجة الأولى، وأن ينعكس على مستويات تحسن وضعه الاجتماعي، من خلال التخفيف بشكل ملموس وواضح من أرقام الفقر والبطالة، والمحافظة على الطبقة الوسطى وحمايتها، ومن دون ذلك كانت رؤية الملك بأننا لن نكون على الطريق الصحيح.
وفعلا فقد بدأ الملك خطته الاقتصادية، وأثر بشكل واضح على بيئة الاستثمار وتشجيعها، وانفتح على القطاع الخاص، وقدمه حقا كشريك في فتح مجالات التوظيف في سوق العمل، وكان عنده تصور واضح، عن الدورة الاقتصادية الكاملة التي يجب أن تنقل المملكة من حالة اقتصادية إلى حالة اقتصادية أفضل.
لكن التحديات التي أثرت على المملكة، وهي التي ذكرتها في مطلع سؤالك، هي العقدة التي وُضعت في طريق الإصلاح الشامل، الذي دعا إليه الملك، منذ أول يوم تسلم فيه سلطاته الدستورية ومسؤولياته.
فأحداث 11 سبتمبر كانت أول التحديات وأخطرها، من حيث التداعيات، ولا شك بأن إرث الملك عبد الله الثاني من أبيه في دعم القضية الفلسطينية وتقديمها كأولوية مركزية، ظل هاجسا في عقل الملك الشاب، وهي عوامل تفاعلت في ذات الوقت. أضف لكل ذلك جبهة الحدود الشرقية وقتها، وتأزم وضع العراق، قبل وخلال وبعد احتلاله من قبل الولايات المتحدة.
لا شك بأن هذه الاحداث التي واجها جلالة الملك في أول عهده بلورت شخصية الملك، وأثرت فيها بسرعة، وانعكس ذلك على أدائه الديناميكي الذي صار لافتا، وكانت رغبة الملك وطموحه واضحين بأن يكون عهده مختلفا.
لكن وللحق أقول، أن سياسة الاقتصاد الحر ورفع القيود والخصخصة وغيرها، لم تواكبها دراسة اجتماعية وإدارية كافية، فقد دخلنا في عصر العولمة في العهد الأميركي، بدون أن نحمي أنفسنا من سلبياتها، فقد أخذناها بـ"عجرها وبجرها"، وارتُكبت الأخطاء في أولويات الخصخصة، وواكبها اتهام بالفساد، وجاء تقرير لجنة التقييم التي ترأسها عمر الرزاز، ليؤكد ذلك الأمر، ما أوقع البلاد والعباد في مشاكل واتهامات.
- إذا، كانت هناك حالة إيجابية أنتجها عهد الملك الجديد، وكان هناك سوء إدارة حكومية لأفكار الملك الشاب، ورؤيته الإصلاحية؟
-يجب علينا أولا أن نوثق التحديات والأحداث، التي تحدثنا عنها، والتي تزامنت مع بداية عهد الملك عبد الله الثاني، وشكلت سورا كبيرا أمامه. فالإرهاب، وبعقلية الأميركان المتشددين، جعلنا كلنا متهمين أمام الغرب والولايات المتحدة، وبالتالي قد تختلط الأوراق الأميركية، وتتبدل تحالفاتها في المنطقة، وكلنا نعلم بأن الملك عبد الله كان في ذات الساعة، التي تفجر فيها البرجان في سماء الولايات المتحدة، يقوم بزيارة شبه رسمية، لكنه عاد على الفور إلى عمان بعد سماعه بالخبر.
لقد كان هذا الحدث هاجسا للملك، في البحث عن الكيفية، التي تُخرجنا من هذه الصورة وتداعياتها، وأن يعرف العالم بأسره موقفنا، وبالتالي فقد كان علينا توضيح صورتنا المعتدلة والوسطية، بطريقة تلفت نظر العالم إلينا، وبأننا مختلفون وبعيدون عن كل تطرف وتشدد، واجتهدنا منذ ذلك الوقت، وبجهود جلالة الملك في رسم صورة مختلفة عن الأردن، ونجحنا في أن نكون النواة التي استقطبت كل دعوات الوسطية والاعتدال ونبذ الإرهاب والتطرف، وإعلاء قيم التسامح والتعايش الديني والانفتاح على الحضارات والثقافات، من دون أن يلغي ذلك هويتنا العربية الإسلامية.
بعد تلك الأحداث قررت الولايات المتحدة زيادة قدرات الأجهزة الأمنية لدى حلفائها، وفعلا فقد ارتقى مستوى كفاءة الأجهزة الأمنية، لكن في ظل تزايد نفوذ وكفاءة الأجهزة الأمنية، كان الجهاز الرسمي المدني وإداراته تضعفان، وهي مشكلة أخرى سنأتي على ذكرها لاحقا.
وفعلا، فقد حظيت الأجهزة الأمنية بدعم رأس الدولة، وكل ذلك في سبيل تمكين الجبهة العالمية، في مواجهة معركة الإرهاب والتطرف، وعليه كانت مساحة النفوذ الأمني تزيد على حساب مساحة القرار السياسي، ولهذا أسبابه طبعا، لأنه جاء في سياق السعي لتقليص هوامش الخطأ، في أي قرار سياسي، أو اجتهاد في غير مكانه، قد يؤثر على ضعف الجبهة الأمنية واستقرارنا الداخلي، الذي تميزنا به.
لذلك كان أول عمل قمنا به، للرد على تهمة الإرهاب والتطرف، الذي تم إلصاقه بالإسلام والمسلمين، أن انخرط الأردن، ومن واقع علاقاته الاستراتيجية مع الولايات المتحدة في مواجهة ومكافحة الإرهاب، وفعلا فقد اعتمدت الأجهزة الأمنية كثيرا على خبرتنا، في توفير المعلومات، والدعم اللوجستي للمهمات الخاصة في ملف الإرهاب.
لقد داهمنا الإرهاب، وكان ضروريا اتخاذ موقف منه، خلال تلك الفترة التي شهدت حضور قيادات شابة، في كل من الأردن وسورية والبحرين، وبدء نزوع مجتمعات عربية أخرى لتغيير أنظمة فيها بطريقة سلمية، وكنا نعول على هذا التغيير، بأنه سيحدث الفرق الإيجابي، في حياة الدول وطموح المجتمعات.
- وهل هذه التحديات مجتمعة، تسببت في تأخير أولوية برامج وملفات الإصلاحات الشاملة الداخلية التي أرادها الملك في مطلع عهده؟
-ما يجعلك تحزن أكثر؛ هو سوء الحظ في مثل هذه المواقف، فقد نشأت فعلا عندنا جبهة ضاغطة، تطالب بالإصلاح الداخلي، وكان لها قوة حقيقية على الأرض وفي الواقع، والأهم أن الملك نفسه كان على رأس هذه القوى السياسية، لكن الظروف والتحديات الإقليمية التي ذكرتها عادت لتبعثر أولوياتنا، وتضعنا أمام تحدي الأمن الداخلي والاستقرار السياسي والاجتماعي، وجدولة الإصلاحات مرة أخرى.
الملك، وعندما بدأ عهده، كان يسعى نحو خلق حالة توافقية على خطط وبرامج وسياسات الإصلاح، وقدم بنفسه مبادرات، مثل "على قدر أهل العزم"، و"الأردن أولا" في حينه، وهو ما يؤكد هوية عهده الإصلاحية، وبسبب كل الظروف التي طرحتها في سؤالك، بقيت الأفكار والمخرجات لتلك الأفكار، محجوزة دون أن تصل إلى مستويات التنفيذ والخروج إلى الواقع.
ومع ذلك بقيت الأبواب مفتوحة، وظلت الدعوة مستمرة ليتم تنفيذ تلك البرامج الإصلاحية، ولو ببطء وتتدرج، واليوم وباعتقادي بأنه لا مفر من اتمام هذه الإصلاحات، فقد تغير الزمن، وتغيرت المفاهيم كثيرا، وصار من أولوياتنا الوطنية استكمال برنامج الإصلاح الشامل، وفق جداوله الزمنية ومتطلباته الضرورية، ومحدداته الاجتماعية والاقتصادية.
- ونحن نتحدث عن التحديات، التي واجهت الملك عبد الله الثاني بداية عهده، فقد تزامنت مع أحداث 11 أيلول (سبتمبر) ايضا، ومن قبلها اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والإعلان عن الدعم العربي لمضامين المبادرة العربية للسلام، وهما شكلا اولوية أردنية في حينه؟
-لا أختلف معك؛ خصوصا وأن الانتفاضة الثانية كانت تعبيرا عن رفض اقتحام رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق ارئيل شارون لساحات الأقصى، وهي مسألة تدخل في صميم مسؤوليات النظام الهاشمي الأردني، التي تحملها أخلاقيا، وما زال يتمسك بها، من منطلق التزامه السياسي والتاريخي تجاه المقدسات الإسلامية والمسيحية في الأقصى والقدس الشريف. كما أن تلك الحادثة جاءت في وقت بلغت فيه الاحباطات لدى قيادات الشعب الفلسطيني ذروتها من السياسات الإسرائيلية، التي لم تتقيد بالجداول الزمنية، التي حددتها أوسلو.
ومع استمرار قادة اسرائيليين متشددين بتصدر المشهد السياسي والعسكري في إسرائيل، وتفاعل أزمة 11 سبتمبر، فقد ابتعد العالم والعرب عن الاهتمام بالقضية الفلسطينية، وصار الاهتمام منصبا على مواجهة معادلة الإرهاب المركبة والمُوزعة على دول ومناطق مختلفة من العالم، وأصبح هناك تداخل، في المفاهيم حول مقاومة الاحتلال عند الشعب الفلسطيني، والإرهاب الذي مارسه متشددون ضد مدنيين عُزل في مناطق مختلفة من العالم، وهذا أمر أشغل مستويات القرار الأردني، وكان هاجسا مهما لدينا أن لا تدخل المقاومة الفلسطينية من جديد على قائمة الإرهاب الدولي.
هذه الظروف، وأضف اليها، عدم تشجيع أنظمة عربية، لأي عمل مسلح داخل الضفة الغربية وغزة، جعلت الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات محشورا في موقف سياسي محدد، وبعيد عن الاهتمام الإقليمي حيال كل ما يجري في الداخل الفلسطيني.
طبعا، هنا كانت الانتفاضة الثانية قد اندلعت وبدأت أحداثها تتفاعل، وبدأت أوضاع الفلسطينيين بالداخل تأخذ بعدا جديدا وخطيرا في نفس الوقت، خصوصا وأن انتفاضتهم جاءت في وقت تغيرت فيه الأولويات الأميركية، وبدأت شبكات التحالفات الأممية تتغير وتتبدل.
بالنسبة لياسر عرفات في ذلك الحين، فقد قدم دعما للانتفاضة، لكن من دون أي التزام رسمي؛ خصوصا في بداية تفاعلاتها، وبرأيي فقد كانت الانتفاضة الثانية ضرورية على صعيد إعادة انتباه العالم للقضية الأساسية في الشرق الأوسط.
لكن الخطأ الذي ارتكبه ابو عمار رحمه الله، كان في دعم الانتفاضة بالسلاح، وانه أرادها أن لا تكون سلمية، أي بعكس ما كانت عليه الانتفاضة الأولى؛ انتفاضة الحجارة، وهذا خطأ ارتكبه عرفات؛ وهو عسكرة الانتفاضة إذا جاز لنا التعبير.
لذلك، جاءت المبادرة العربية للسلام، من أجل تطويق احتمالات أي قرار دولي باعتبار المقاومة الفلسطينية إرهابا، وإلصاق هذه الصفة بها، وبالتالي إلحاق المزيد من الظلم بحقوق الشعب الفلسطيني.
- من صاحب فكرة المبادرة، وكيف نشأت، وكيف حصل الدعم العربي لها في القمة العربية في بيروت؟
-كانت المبادرة العربية للسلام هي صياغة أردنية، وقد قرأت صيغة المبادرة، عندما كانت مع وزير الخارجية مروان المعشر في حكومة علي ابو الراغب، والذي دخل الحكومة بعد إعادة تشكيلها، في منتصف كانون الثاني (يناير) من العام 2002، وقبل تقديمها بفترة أعطيت للمملكة العربية السعودية، وهي التي قدمتها في قمة بيروت في آذار (مارس) من العام 2002.
صحيح أن المعشر قام بجولات عربية ودولية للتعريف بالمبادرة العربية للسلام، لكننا لما ذهبنا إلى بيروت التزمنا بها ودعمناها وكأنها مقدمة من السعوديين.
في تلك الفترة، كانت لدي مهمة في جامعة الدول العربية، تحت عنوان المفوض العربي لشؤون مؤسسات المجتمع المدني العربية، فحضرت القمة واجتماعاتها المغلقة.
لم يذهب الملك عبد الله الثاني للقمة، وذهب ابو الراغب رئيسا للوفد الأردني المشارك، وكان الأردن رئيس القمة العربية في الدورة السابقة، ويجب أن نسلمها للبنان كرئيس جديد للقمة، كما اعتذرت الإمارات ومصر عن الحضور، بوفدين رئاسيين، واكتفيتا بتمثيل أقل، وعتب علينا السعوديون باعتبار أن غياب الملك عبد الله الثاني والرئيس المصري حسني مبارك وقتها، قد أضعف دعم المبادرة العربية للسلام، التي قدمتها السعودية واحتاجت لإسناد عربي لها في مهمتها تلك، لكن لاعتبارات أمنية وليست سياسية غاب الملك ومبارك.
من مفارقات تلك القمة، بأن الرئيس اللبناني أميل لحود اعترض على أن يلقي ياسر عرفات كلمة فلسطين بالقمة، عبر شاشة الفيديو من رام الله، لكن وزير خارجيتنا مروان المعشر تدخل على الفور وطوق الأمر، واستطاع اقناع لحود بأهمية إلقاء ابو عمار خطاب فلسطين، في قمة بيروت، التي ستناقش وستدعم المبادرة العربية للسلام، وتريد أن يصار إلى دعمها عربيا بعد الموافقة عليها.
كما حصل خلاف واضح بين أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى، ووزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد، حول من يقدم مشاريع قرارات القمة العربية، وبالمناسبة ظل الاحتقان في العلاقة بين الرجلين حتى غادر عمرو موسى موقعه في الجامعة العربية.
- بالعودة للمبادرة العربية للسلام فقد تبنتها المملكة، وصارت جزءا من خطابنا السياسي فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية؟
-لقد تبنى الاردن المبادرة العربية للسلام، وآمن بها جلالة الملك عبد الله الثاني، وأصبحت في تلك الفترة هي عنوان الدبلوماسية العربية والأردنية، ولقد كان الملك مؤمنا بأن هذه المبادرة شكلت فرصة ذهبية لإسرائيل؛ فإذا قبلت التعامل معها فقد تكون هي بداية التقبل العربي لإسرائيل والاعتراف بها، والتعامل معها على هذا الأساس.
لكن ما جرى كان مختلفا، فشارون والرئيس الأميركي جورج بوش كانا بنفس الذهنية المتعصبة والمتعنتة، وبقيت المبادرة تراوح مكانها، فلا العرب قدموها والتزموا بها أمام دول صناعة القرار، ولا إسرائيل والولايات المتحدة قامتا بأي خطوة تجاه المبادرة، وبقيت الأمور على حالها.
لكن الأهم؛ بقيت المبادرة العربية للسلام وثيقة عربية تحرج الإسرائيليين، وتعري موقفهم أمام العالم، بعد أن كسر العرب حاجز الصراع، والنزاع العربي الإسرائيلي، وتقدموا بخطوة كبيرة نحو السلام، وعلى أسس عادلة تنصف الفلسطينيين، وتجعل الإسرائيليين يعيشون بسلام وطمأنينة في منطقة لم تعرف الامن والاستقرار منذ مطلع القرن الماضي.
صحيح أن المبادرة العربية جاءت لنفي صفة الإرهاب عن المقاومة الفلسطينية، وإبعاد الفلسطينيين عن هذه التهمة، وقد كانت مراوغة سياسية ناجحة وذكية، لكن باعتقادي فإن أهم أسباب ولادة المبادرة هو إعادة لفت انتباه العالم للقضية الفلسطينية، وجذب انتباه العالم لعرض عربي سخي والتعامل معه كواحد من مرجعيات القرارات الشرعية الدولية.