رسالة مجلس الأعيان إلى جلالة الملك عبد الله الثاني حول التطورات في المنطقة
رسالة من مجلس الاعيان وقد أرسلت هذه الرسالة تعبيراً عن موقف ورأي وتحليل مجلس الأعيان للظروف السائدة مع بدايات الربيع العربي ارسلت بتاريخ 20/7/2011
يتشرف مجلس الأعيان بأن يتقدم من مقام جلالتكم السامي بتحية الإعتزاز والوفاء وبعد، فإن المجلس، وانطلاقاً من حقيقة كونه خيار ومجلس جلالتكم، وتقديراً منه للظروف التي يمر بها الوطن، والأوضاع السائدة حالياً في المنطقة والإقليم بأسره، وانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على مجمل الأوضاع في المملكة، يرجو أن يضع بين يدي جلالتكم قراءته لهذه التطورات والتي تنطوي على تحديات كثيرة، وعلى نحو بات يثير القلق ويملي علينا في مجلس الأعيان، المبادرة للنهوض بأمانة الواجب حيال الثقة الغالية التي أوليتمونا إياها جلالتكم، وفاء للوطن والعرش، وصوناً لاستقرار الأردن وأمنه ونمائه.
يشهد الأردن ومنذ شهور عده، حراكاً شعبياً متصاعداً يرفع شعاراً رئيساً هو المطالبة بالإصلاح الشامل سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهو حراك لا شك ينطلق من هموم داخلية قوامها كما هو معلن "الفقر والفساد والتراجع الاقتصادي وضنك العيش الناجم عن البطالة والغلاء، ومحدودية المداخيل، والإحساس بتراجع منهج العدل والمساواة والحرية، وبالتالي المطالبة بتفعيل المنهج الديمقراطي الذي يرى المحتجون ومختلف شرائح وقطاعات هذا الحراك، إنه السبيل لتحقيق المطالب، وتكريس مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، وتأصيل دولة المؤسسات والقانون، ضماناً للشراكة المجتمعية الشاملة في الأداء الشمولي للدولة والوطن".
يتأثر الحراك الشعبي الأردني المتصاعد، بما يجري من حراك مماثل في دول عربية عده، وهو تأثر يفتح الأبواب بالضرورة، لمؤثرات خارجية بدأت نذرها تظهر في الأفق، في ضوء تقاطع المصالح الإقليمية والدولية، وثورة الإعلام والاتصال الهائلة، وعلى نحوٍ لم يعد ممكنـاً معه في عالـم اليـوم، لا للأردن أو لسواه، تجنب آثار تلك المؤثرات، إلا بتفعيل المسار الديمقراطي الكامل الذي يحصن الأوطان ضد هكذا مؤثرات وتبعات.
يدرك مجلس الأعيان أن الهموم المعلنة للحراك الشعبي الأردني، ناجمة في كثير من الأحيان عن عوامل خارجية ذات صلة بتراجع الاقتصاد العالمي بمجمله، وتأثر الأردن مباشرة بانعكاسات ذلك سلبياً، خاصة على صعيد ارتفاع كلفة الطاقة، وانحسار حجم المساعدات الخارجية، وغير ذلك من مؤثرات، لكنه يرى في المقابل، أن ذلك لا يعفينا جميعاً، مسؤولين ومواطنين ومؤسسات، من واجب التصدي لهذا الواقع، بروح الشراكة في النهوض بالواجب، وبما يصون مسيرتنا وبلدنا، ويجنب الأردن المخاطر وتقلبات الظروف التي يتفاعل خطرها من حولنا وفي المنطقة بأسرها، وبتسارع كبير لم يعد يترك فرصة حتى لالتقاط الأنفاس في العديد من الدول التي تشهد مظاهر ثورات شعبية في الوقت الراهن.
ويدرك مجلس الأعيان أن الإصلاح السياسي الشامل في المملك، قطع أشواطاً جيدة حتى الآن، إلا أن ظروف الحراك الداخلي المتأثر بما يشهده الإقليم، باتت تستدعي تسريع المسار على هذا الصعيد، خاصة في ظل حالة التشكيك التي يعيشها كثير من المحتجين إزاء جدية الدولة في الذهاب إلى ما هو مطلوب شعبياً في هذا المجال.
يـرى مجلس الأعيان أن الظروف المعيشية ومتطلبات العيش الكريم الآمن، باتت تشكل عوامل ضغط هائل على كاهل السواد الأكبر من المواطنين، وهو واقع أفرز مؤثرات مؤلمة على طبيعة العلاقات بين مكونات المجتمع، وأدى إلى جانب الشكوك في مسيرة الإصلاح السياسي ومحاربة الفساد، إلى تراجع في هيبة الدولة لدى مواطنيها، وأسهم إلى جانب الهموم الأخرى، في إضعاف مبدأ سيادة القانون، وتدنى مستوى ثقة المواطن بالسياسات والقرارات والإجراءات الحكومية.
ويرى مجلس الأعيان، أن الحديث المتنامي عن ثنائية "الفقر والفساد" أوجد حالة من العنف في اليد واللسان، لا بل وحالة من "النقمة" في ذات المواطن الذي بات يعزو أسباب الفقر وضنك العيش، إلى استشراء الفساد، وبخاصة لدى من يعتقد المواطن بأنهم في منأى عن المساءلة والعقاب.
يرى مجلس الأعيان أن ضعف الخطاب السياسي والإعلامي للحكومات المتعاقبة وحتى الآن، وتشتت سياساتها الداخلية، وجنوحها الواضح إلى ممارسة الحكم بمنهجية "تسيير الأعمال"، وبعقلية وظيفية مجردة، أسهم وبصورة جلية في تفاقم الهموم والمشكلات الداخلية، وأفقد الحكومات ميزة تفاعل المجتمع مع سياساتها وقراراتها وإجراءاتها، وأوجد هوة كبيرة بين المواطن والمسؤول، وأدى بالتالي إلى استفحال حالة الغموض والتخبط وتبادل الاتهامات، وظهور ما يسمى بمراكز القوى والمتنفذين في المصطلحات الدارجة على ألسنة المواطنين.
يرى مجلس الأعيان وبتأثر، أن مبدأ الشراكة في تحمل المسؤولية بين السلطات، يفقد مضمونه تباعاً، في ظل ضعف إدراك الحكومات لحرمة وحتمية تأصيل هذا المبدأ، وجنوحها في المقابل، إلى التعامل مع هذا الثابت بمنهجية "رفع العتب"، خلافاً لأصول الشراكة الدستورية في حمل أمانة المسؤولية.
يستأذن مجلس الأعيان مقام جلالتكم السامي، لأن يُعرب عن "القلق" حيال الأوضاع الداخلية التي يمر بها الوطن، خاصة في ظل تطور وتصاعد نبرة ومضمون ونوعية الشعارات التي يرفعها وينادي بها المحتجون، وعلى نحو يسهم في التحشيد والتعبئة الشعبية ضد الدولة ومنهجها وسياساتها، وهي شعارات يوظف بعضها ثنائية "الفقر والفساد"، في تعبئة النفوس ضد الدولة وسياساتها، بصورة تلقى استجابة متسارعة بين صفوف المواطنين، وبالذات مناطق الفقر الشديد في الجنوب وسائر المحافظات الأخرى.
في ضوء ما سبق، فـإن مجلس الأعيان، يعتقد بأن من الضرورة بمكان، تـدارك الأمور بالسرعة الممكنة، وذلك بالنظر إلى موقع الأردن الجغرافي والسياسي، والـذي يجعل منه محط أنظار دول ديمقراطية غربية وإعلام غربي منفتح، ومؤسسات مجتمع مدني تعنى بالحريات في العالم، وعلى نحوٍ يتطلب وباهتمام، تضافر جهود الجميع للحفاظ على صورة الأردن النقية الديمقراطية، والحيلولة دون أن تكون بعض الممارسات، مادة لذلك الإعلام وتلك المؤسسات، لتشويه الصورة والإساءة للأردن.
ومن هنا يعرض مجلس الأعيان، جملة المقترحات التالية علها تسهم في تبديد المشهد المتلبد بالمخاطر،لقد بات مطلوباً وبقوة، رفع سوية الأداء الحكومي، بما ينسجم مع حقيقة أن مجلس الوزراء سلطة حاكمة ذات هيبة ومكانة، وقدرة على رسم السياسات الاستراتيجية الداخلية في الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبصورة قادرة على استعادة ثقة المواطن، وبث روح الطمأنينة في نفوس الجميع، حيال كفاءة الحكومة في إدارة شؤون البلاد.
ولقد بات مطلوباً وبقوة كذلك، رفع سوية الخطاب السياسي والإعلامي للدولة، بحيث يكون ذا مضمون وطني مقنع وقادر على اكتساب ثقة الجمهور، واستقطاب تفاعله الإيجابي مع توجهات الدولة وسياساتها وسائر قراراتها وإجراءاتها، باعتبار أن ذلك شرط أساس لضمان سلامة المسيرة الوطنية بكل تفاصيلها.
تقتضي الظروف الضاغطة، تفعيل مسيرة الإصلاح السياسي من خلال الإسراع في اتخاذ الخطوات التي تلبي طموح الشعب، وتستجيب لمتطلباته، عبر الآليات الدستورية المعروفة، وشرح ذلك للعامة من خلال خطاب إعلامي مبدع في اختيار المحتوى والزمان والمكان وطرق العرض، وإقناع الشارع وبالممارسة العملية، بجدية الدولة في الذهاب المتدرج وحتى نهاية الشوط، لتكريس نهج الإصلاح السياسي المعبر عن إرادة الشعب وطموحه وتطلعاته.
الإسراع في إيلاء الشأن الاقتصادي والظروف المعيشية الصعبة للمواطنين، أقصى درجات العناية والاهتمام، واعتبار أن هذا الشأن أولوية وظرف استثنائي يستدعي اتخاذ قرارات وإجراءات استثنائية، في مجال التوظيف والتشغيل وتنشيط عجلة الاقتصاد، وحث مختلف المؤسسات الوطنية وفي القطاعين العام والخاص، على استيعاب أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل، وإقامة مشروعات تنموية تشغيلية في المحافظات الفقيرة وبما يوفر مداخيل مناسبة للمواطنين الذين يعانون ضنك العيش.
المبادرة لإيلاء قطاعي الصحة والتعليم بالذات عناية قصوى، ومن خلال إجراءات استثنائية كذلك، والبحث عن معادلة تسترشد بما هو معمول به في جميع الدول العربية التي توفر مقاعد جامعية لطلبتها في الجامعات الحكومية بالمجان، واعتبار العام الحالي هو عام المبادرة إلى توفير التأمين الصحي الشامل لسائر المواطنين باستثناء الشرائح الثرية.
تفعيل مبدأ سيادة القانون على الجميع، وترسيخ قيم العدل والمساواة بين الجميع وفي مختلف مفاصل النشاط العام للدولة، وتأكيد مبدأ احترام كرامة المواطن وحقه في حياة حرة كريمة، ويمكن إبراز ذلك في مختلف مجالات تعامل السلطات الرسمية مع المواطنين، ومن خلال الإعلام المبدع الهادف.
المبادرة إلى الاستجابة لضغوط الشارع المطالبة بإظهار قدر أكبر من الاهتمام في التعامل مع قضايا الفساد المثارة، وبصورة شمولية تدفع بكل من تدور حولهم شبهات فساد إلى القضاء، ليقول كلمته الفصل في تبرئة البريء، ومعاقبة المذنب، خاصة وأن قضايا الفساد باتت تشكل محور التشكيك والإشاعات، وانحسار ثقة المواطن بقدرة الحكومات وجديتها في التعامل مع هذا الملف.
يدرك مجلس الأعيان أن المهمة شاقة وتتطلب جهوداً مضاعفة لاحتواء الأزمة التي تمر بها البلاد، لكنها أساسية وضرورية، ولم تعد تحتمل التأخير، خاصة ونحن نستشعر مدى الخطورة في انشغال الدولة وأجهزتها الأمنية والإدارية بمتابعة المسيرات والاعتصامات، والانغماس في ردات الفعل على هذه الممارسات التي كفلها الدستور من جهة، وتحظى بتعاطف العالم ومختلف القوى والهيئات الدولية ذات العلاقة من جهة ثانية، وعلى نحو يستدعي التعامل معها بحكمةٍ مطلقة، واستجابة فاعلة وسريعة ومدروسة، تفوت الفرصة على أية ممارسات شاذة، أو أية محاولات خارجية للتدخل في شؤوننا الوطنية الداخلية، وبما يستقطب التفاف الشعب حول الدولة، وبما يعزل سائر الممارسات غير المألوفة وأصحابها ومروجي الفتن وأصحاب الأجندات الخاصة، ويحول دون نجاح أهدافهم "إنشاء الله"، في ضرب سلامة المسيرة الأردنية ووحدة نسيجها الاجتماعي، أو أخذ الوطن نحو الفوضى وانفلات الأمور بصورة يصعب معها تدارك الموقف.
ويؤكد مجلس الأعيان انه رهن توجيه جلالتكم السديد للمبادرة إلى العمل المثمر بعون الله، بما يحقق أهدافنا السامية في إبعاد الشر وتأصيل الخير على هذه الأرض المباركة، وفي هذا الوطن الفخور بقيادة جلالتكم الحكيمة.
حفظ الله جلالتكم، وصان الأردن الغالي من كل عبث، انه سميع قريب مجيب الدعاء.