ما لم يقله طاهر المصري...!!
نشر هذا المقال بقلم السيد حسين الرواشدة في جريدة الدستور بتاريخ 15 أكتوبر/تشرين الأول 2015
إذا كانت "صرخات" الانتحار التي أطلقها شباب من أبنائنا في عمر الورود لم تدق بيننا ناقوس الخطر، ولم تحرك ضمائرنا لكي نفهم –على الأقل -ما حدث في مجتمعاتنا من تحولات في منظومته القيمية، فكيف يمكن لمقال أو دراسة علمية أن تفعل هذا؟
بقــــدر مــــا استــــوقفني المقــــال الذي كتبه الاستاذ طاهر المصري قبل يومين حول "الإصابات" التي طرأت على قيم مجتمعنا، ومدى خطورتها على مستقبلنا، بقدر ما شعرت بالخيبة والصدمة والخجل من"صمتنا" المريب على واقعنا الاجتماعي، وما يحصل فيه من تغيرات عميقة، لدرجة أن أحدنا أصبح يحس "بالغربة" ويبحث عن العزلة، وسط محيط يكاد لا يعرفه ولا يألف ما يجري فيه.
لا يوجد لدي الكثير مما أضيفه على "التشخيص" الذي قدمه دولة طاهر المصري، ولكن لدي سؤالان اثنان، أحدهما: من هو المسؤول عن ذلك، والثاني كيف ومن أين نبدأ بإصلاح ماحدث؟
إجابة السؤال الأول بتقديري يمكن أن ألخصها في كلمة واحدة وهي "السياسة" ذلك أن ما حدث في مجالنا الاجتماعي من إصابات وانهيارات مرتبط بشكل أو بآخر بمناخات ومقررات "سياسية" أفرزت من مجتمعنا أسوأ ما فيه، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي حيث الفقر والبطالة والتهميش، ولا حتى الجوع الذي يكاد أن يشكل "طبقة" جديدة في مجتمعنا، وإنما على الصعيد الأخلاقي أيضاً، لدرجة أن ما نعانيه اليوم هو مشكلة "أخلاقية" بامتياز، تحالف – بقصد أو بدون تعمد- السياسي مع الديني في انتاجها والترويج لها، حتى تعمقت في داخلنا وأصبحت تشكل شخصيتنا، وإلاّ كيف يمكن أن نفهم تراجع القيم التي كانت مصدر اعتزاز آبائنا وأجدادنا، وتحولها إلى النقيض تماماً، خذ مثلا قيمة الفقر التي كانت تدفع إلى الإبداع والعصامية والاعتماد على الذات والافتخار بها، ثم تحولت إلى قيمة طاردة وسلبية لا تنتج سوى العنف والتطرف والتوسل واحتقار الذات، هذا التحول –بالطبع- يقف وراءه عاملان سياسي وديني ساهم خطابهما في صياغة المجتمع على أساس أنه "سوق" للاستهلاك في معزل عن القيم، لا تقل لي إن الطرفين غالباً ما يحضان على الالتزام بالقيـــم، فالمقصود هنا أن أفعالهما وممارساتها ارتكزت على الاستثمار في المجتمع بطريقة مغايرة تماماً لمنطق "القيمة": السياسي مثلا اعتمد "الجباية" وتهميش كل ما يتعلق بالأمن الاجتماعي في معظم سياساته ومقرراته، والديني أيضا إذ استخدم الدين كقانون للزجر والتخويف والترغيب، فيما وظيفة الدين الاساسية هي "الهداية" المرتبطة بالاستثمار في الإنسان كقيمة لا كمستقبل للأوامر فقط. سأتجاوز عن كثير من التفاصيل، لكن ما ذكرته سلفاً ولّــد في مجتمعنا ثقافة جديدة، تعاملت مع المتغيرات الداخلية والخارجية وضغوطاتها بمنطق "السوق" تماماً، وبالتالي لم يعد لقيم مثل الاستقامة والنظافة والنزاهة والقناعة والوئام الاجتماعي والالتزام والاتقان والاعتماد على الذات والتضحية من أجل الجماعة...الخ، أقل اعتبار في حياتنا بل أصبحنا نبحث عن قيم بديلة لها، كي تساعدنا في تحقيق رغباتنا أو سدّ حاجاتنا أو حتى الانسجام مع محيطنا العام.
أتحدث هنا بصورة عامّة، ولا أعمم، فلدينا نماذج أخرى من القيم السامية والصامدة التي تعبر عنها فئات من مجتمعنا بصورة او بأخرى، لكن حين نطالع صورة مجتمعنا في المرآة الاجتماعية نجد أن معظم هذه القيم التي تأسست عليها الدولة والمجتمع، تراجعت أو غابت أحياناً، كما نجد أن استعادتها من جديد في ظل العولمة وما يحصل في الإقليم من صراعات، وما يتعرض له بلدنا من ضغوطات اقتصادية مسألة صعبة، الأمر الذي يستدعي التفكير جدياً في الإجابة على سؤال العمل؟ وهو كما قلت يرتبط بخطابنا السياسي والديني وبالفاعلين فيهما، وهذا يحتاج إلى نقاش طويل جاء وقته ولا بدّ أن يحضر أصحابه أيضا.
صحيح أن الاستاذ المصري وضع يده على "الجرح" وتعمق في تشخيص أعراض المشكلة وأسبابها ومرّ سريعاً على وصفات "العلاج" الممكنة، لكنــه – وهو معذور في ذلك – لم يحدد لنا بصراحة من أي الصيدليات يمكن أن تصرف هذه الوصفة، ولا من هم المعنيون بكتابتها ايضاً؟