وثائق أُخرى
وجهت هذه الرسالة إلى جلالة الملك عبد الله الثاني وسُلمت باليد لمدير مكتبه السيد عماد فاخوري بتاريخ 7/7/2014
حضرة صاحب الجلالة الهاشمية الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله
صاحب الجلالة،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أنتهز مناسبة حلول شهر رمضان المبارك، لأقدم لجلالتكم وللعائلة الهاشمية الكريمة أطيب التمنيات بالتوفيق والنجاح لما فيه خير الأردن والأمة. كما أنتهزها فرصة لكي أتواصل مع جلالتكم حول قضايا هامة ومفصلية أشعر من واجبي أن أشير إليها بكل موضوعية وأمانة، كما هي فرصة أنتهزها لشرح نشاطات قمت بها من على منابر عامة خلال الأسابيع الماضية.
كان هدفي من تلك النشاطات هو الدفاع عن اللُحمة الوطنية، وعن النسيج الاجتماعي، في وجه تفاعلات ما تسرب من خطة كيري والتي بدأت تأخذ منحى يضر بالسلم الأهلي، وبالمفاهيم التي كافح الهاشميون والأردنيون على مدى تسعة عقود من الزمن لأجل حمايتها، وكان واجباً علي التصدي لمخاوف وهواجس بعض الفئات حول ما يسمى بمؤامرة الوطن البديل، وادعاءات التجنيس والتوطين، وإلغاء حق العودة، وما إلى ذلك من أقاويل انتشرت بين بعض فئات المجتمع الأردني بشكل مفزع، حتى إن أحد الأساتذة المؤرخين المعروفين حذر في مقال له على إحدى المواقع الالكترونية بأن (أيلول الذهبي ليس ببعيد) فيما إذا تم القبول بخطة كيري، وقد بدأتُ هذا النشاط بكتابة مقال في جريدة (الغد) في نهاية كانون الثاني / يناير الماضي بعنوان (على ماذا نختلف) فندت فيه هذه الاتهامات والشكوك.
أما وقد تراجعت هذه الادعاءات والأوهام، وهدأت النفوس نوعاً ما، وثبت أن حكمة جلالتكم وخطابكم السياسي وتحرككم، كان صحيحاً وعقلانياً ودقيقاً في توقعاته وحساباته وفي نتائجه أيضاً، فإنني أنتهز هذه الفرصة مرة أخرى، لأعرض على جلالتكم قضية جديرة باهتمامكم.
صاحب الجلالة،
لقد أثمرت جهود جلالتكم الدؤوبة والمستمرة خلال السنوات الماضية في ترسيخ صورة براقة ومشرقة للأردن في العالم أجمع فالأردن، البلد الصغير في حجمه الكبير بدوره، الفقير في ثرواته الطبيعية يعيش في إقليم ملتهب وغير مستقر، أصبح ركيزة وعنصراً أساسياً في هذه المنطقة، وله دور سياسي مُقرْ ومعتـــرف به، والأردن عندهـــم هو بلد العيش والتعايش المشترك والتسامح والوسطية، هو البلد الآمن والمستقر الذي يسعى لترسيخ مبادىء العدل والمساواة والقبول بالآخر، ولكنه في نفس الوقت البلد المهدد دائماً بأمنه واستقراره خاصة من بعض جيرانه نتيجة لتمسكه بتلك المبادىء، وأصبحت تلك الدول والقوى تتعامل مع الأردن على هذا الأساس، وتسعى لدعم هذا الواقع الأردني وتمتينه سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً.وأصبح الأردن من أقرب دول العالم في علاقاته مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ونمور آسيا وحلف الأطلسي، وصدق رئيس تحرير جريدة السفير اللبنانية الأستاذ طلال سلمان عندما قال في افتتاحية جريدته قبل فترة قصيرة إن (الأردن هو الدولة الوحيدة في المنطقة).
وتزداد الصورة وضوحاً وزهواً عندما نستعرض الصورة البراقة التي تقدمها القوات المسلحة الأردنية والخدمات الطبية الملكية منذ سنوات طويلة في مجال حفظ السلام وتقديم الرعاية الصحية في مناطق منكوبة في مختلف أنحاء العالم.
في كل ذلك، يجب أن يرد الفضل إلى صاحب الفضل، وفضل جلالتكم في ذلك لا ينكره أحد.
صاحب الجلالة،
ثمة مفارقة ليس من الإيجابي استمرارها. فبين صورتنا التي طَبعَتَهَا في أذهان العالم بأسره عن واقع الأردن، حضرياً وحضارياً، وقدرته على استقراء المستقبل واستباق الأحداث والاستعداد لها بشكل منظم ومتدرج، ممّا شكل انطباعاً عالمياً عن اختلاف نظامنا السياسي عن باقي دول الإقليم، وهو الدليل الناصع على قدرة جلالتكم في تقديم مملكتنا خير تقديم.
لكـــن يا سيــدي، ألا تعتقد بأن هناك صدمة حاصلة عند قراءة التباين الكبير بين ما أردته وتتمناه لنا، وما نعيشه اليوم، ففي مملكتنا ثمة جيوب اجتماعية بدأت تنعزل على ذاتها، حتى صارت مرتعاً للفكر المنغلق الذي يجد في دعوات التطرف سبيلاً للتعبير ومنهجاً للفكر، وهو ما يجب أن نواجهه بالتحديث المطلوب تربوياً وقيمياً، وبث روح الوطنية التصالحية والتسامحية ذات الأفق الرحب والفضاء الفسيح، وترسيخ دولة المواطنة.
إننا ونحن نفتخر بأصالتنا، تاريخياً وجغرافياً ونظاماً سياسياً وهوية وطنية وتعددية سياسية ودينية ومذهبية وطائفية، فإننا ما زلنا لم نصل بعد إلى هدفنا، وهو بناء الدولة المدنية الحديثة، وربما لأننا في ظل الظروف الإقليمية المضطربة والدموية، وفي ظل الأوضاع الداخلية التائهة، أقول ربما نحن نُدفعُ بعيداً عن تحقيق هذا الهدف.
صاحب الجلالة،
لقد تقدمنا كثيراً في مجال الإصلاحات التي شملت جوانب عديدة من حياة الأردنيين، ويمكنني القول إن ذلك الإصلاح قد تم أغلبه في النصوص ولكنه لم يصل بعد إلى إصلاح النفوس، والآن حان وقت التعامل مع النفوس، فقد تغير بنيان الفــرد الأردني الفكري والذهني والإنساني، وبالتالي تغيّر بنيان المجتمع تبعاً لذلك، وجرى هذا التغيير الذي ما زال مستمراً لأسباب عديدة منها:
- لم تتواءم السياسات الخاصة التربوية والإدارية والإجتماعية مع ما يرنو إليه التطور النوعي الذي سار عليه العالم منذ ثورة المعلومات والتكنولوجيا، وتراجعت أخلاقيات التعليم ومستواها المهني، وبالتالي تراجعت مخرجات الجامعات.
- إزدياد نسب الفقر والفقراء بسبب الظروف المعيشية الصعبة التي تعاني منها قطاعات واسعة من المواطنين، وعدم الشعور بالأمان الإقتصادي والمعيشي، ووجود أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل خاصة في المحافظات، ويبدو أن هذا الحال يتعمق بالرغم من كل الجهود المخلصة والأموال التي تبذل لتحسين الوضع.
- عوامل سياسية متعددة، منها تداعيات الصوت الواحد في قانون الانتخاب مما أدى إلى تبعثر في الانتماءات وابتعاد عن المفاهيم الوطنية العامة وازدهار لمفاهيم الجهوية والعشائرية، الأمر الذي أدى إلى تراجع مفهوم الدولة والانتماء إليها، كذلك قضايا الفساد التي يتداولها الناس بشكل واسع مع قناعات سلبية حول محاربة الفساد ومعاقبة الفاسدين، وتعثر البلديات وعدم قدرتها على تلبية حاجات الناس، وكذلك البيروقراطية التي أصبحت معطلة لمصالح الناس، وأدى هذا إلى تنامي الشعوربعدم الثقة بين المواطن والمسؤول.
- جيل الشباب الذي لا يزيد عمره على 25 عاماً والذي تشكل نسبته أكثر من 30% من المجتمع الأردني تأثر بتلك العوامل المذكورة، إضافة إلى أنه عـــاش في ظل الانترنت التي وفرت له معلومات وحرية تعبير لا سابق لهما، ولذلك فإن التكوين الفكري والسياسي والاجتماعي لهذا الجيل اختلف عـــــن تكــــــوين من سبقهم من أجيال، وهو جيل يمكن القول بأنه (متمرد) قياساً على معايير الماضي.
- تأثير ديني عقائدي من مفاصل الصراع الذي يجري حولنا خاصة تلك التقسيمات السياسية والانقسامات الإثنية والدينية والطائفية التي أصبحت بوادرها واضحة في العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا، وربما يأتي الدور أيضاً على بعض دول الخليج، والخلاف العقائدي الحاد في مصر، كذلك تداعيات القضية الفلسطينية المستعصية على الحل، وهناك من يعتقد أن خارطة المنطقة ستكون مختلفة عام 2020 عما هي عليه اليوم، وهذا العــامل بالذات هو الذي يدفع الإسلاميين المعتدليــن للنزوع نحو التطرف.
صاحـــب الجلالة،
تلك بعض من عوامل وأسباب عديدة تجعلنا بحاجة ماسة إلى إعادة التفكير في كثير من السياسات والممارسات وطريقة إدارة الدولة، ويجب أن يتركز الجهد على إعادة الاهتمام بالإنسان الأردني وإعادة تأهيله وبنائه، بحيث يكون هناك توازن في شخصيتــــه بين مفاهيمه وواجبه الوطني، وبين متطلبات الفرد المعيشية والاجتماعية، فاتساع الخلل يجعلنا بحاجة إلى (ثورة بيضاء) حقيقية نابعة من شراكة حكومية وأهلية أساسها سيادة القانون، شراكة تعتمد على رؤى وخطط بعيدة المدى ملتزم بها وبتنفيذها وبإشراف مباشر من جلالتكم، ليعود المجتمع الأردني ذلك المجتمع الذي كان مليئاً بتلك الأمثلة البراقة.وليصبح الإنسان الأردني محصناً وحارساً على مصالح وطنه.
صاحب الجلالة،
إن هذه المراجعة الاستراتيجية يجب أن تؤدي إلى إيقاف هذا التراجع في القيم والمفاهيم، وأن تؤدي إلى إيقاف التسرب نحو الغيبيات التي بدأت تنتشر في زوايا كثيرة في المجتمع، وفي رأيي أن هذه الأفكار تلاقي هوى ودعماً سياسياً واجتماعياً عند أعداد متزايدة من الشباب الحائر والضائع، وهذا الدعم أو التفهم ليس بالضرورة اتفاقاً في العقيدة أو الرأي أو الممارسات مع تلك المنظمات أو الدعوات، بل لأن هذه الجماعات بــــــدأت بإيقاظ السلبيات والإحباطات والشعور بالإهمال والظلم التي كانت نائمة، إن التسرب الممنهج في مجتمعنا سببه أن المواطن أصبحت لديه قناة يُعبر بها عن هذه المشاعر سواء أكانت صحيحة أم لا، وبالتالي فإنني أزعم أن الخطر منها هو أكبر مما نظن، وأن هناك بؤراً عديدة في البلد. إن الخطر نابع من أن هذه الجماعات تبث في الناس ثقافة الموت وليس حب الحيــاة. وهي تسعى لإشعال نار التناحر الطائفي، لأنها تعلم أن هذا التناحر عميق في هذه المنطقة، وإذا ما اشتعلت النار فإنها لن تخمد بسهولة.
صاحب الجلالة،
لســـــت أدري فيما إذا كان الأمر يعود أصلاً إلى طبيعتي، لكنني أجد من واجبي بل حتى قدري، أن أطرح قضايا وطنية للنقاش وربما للجدل، ولهذا فإنني كتبت هذه الرسالة شعوراً مني بواجبي تجاه الوطن والعـــــرش، ووجــــــدت أن هــــــــــذه القناة هي المتاحة حالياً، وأعتقد جاداً أن استكمال مسيرة الإصلاح في (النفوس) يجب أن تبدأ برعايتكم، وأن يتم ذلك وفق مفهوم (التوافق الوطني). فهذه المهمة تحتاج إلى تصميم وصبر وإلى إرادة سياسية ثابتة ومستمرة، كذلك يجب أن تتوفر فيمن ينفذ، صفات تتفق مع هذا الهدف السامي، ولا يستطيع أحد أن يدعي أنه يملك منفرداً البرنامج أو القدرة لتحقيق وتنفيذ ذلك، الرؤى واضحة ونقاط الضعف والخلل واضحة، وهناك والحمد الله في الوطن من الخبراء والمختصين والإداريين الذين بإمكانهم ترجمة الرؤى والأفكار إلى إستراتيجيات وخطط عمل.
حماك الله سيدي، وسدد خطاك على طريق الخير والإصلاح والصواب.