Image
Image

سيرة المرحوم الحاج معزوز المصري

ألقيت هذه المحاضرة في أسبوع نابلس الثقافي الثالث والذي تقيمه جمعية عيبال الخيرية بتاريخ 25/10/1997

 

أسعد الله مساءكم. يسعدني أن أقف اليوم بينكم مشاركاً في جهد مشكور تقوم به جمعيــة عيبال الخيرية، وتقدم فيه أنشطة هامة ضمن اسبوع نابلس الثقافي الثالث، لقد بدأ هذا النشاط وهذا الأسبوع يأخذ حيزاً ملموساً بين أعضاء الجمعية، وأبناء نابلس، وعلى مستوى الثقافة في كل من الأردن وفلسطين. وإنني أحيي في بداية هذا الأسبوع اللجنة الثقافية في الجمعية وأخص بالذكر رئيسها الطبيب الأديب والشاعر الديناميكي عصام العمد، واؤكد لهم جميعاً أنهم يستحقون منا جميعاً الشكر والثناء والدعم أيضاْ. ونتطلع إلى المستقبل حينما تتمكن الجمعية من إقامة نشاطها الثقافي هذا في مكان أوسع وأرحب، سواء أكان مقراً جديداً للجمعية أو مكاناً مستأجراً لهذا الغرض وحسب، موضوعنا في هذه الأمسية عرض سيرة حياة المرحوم الحاج معزوز المصري.

 

الحاج معزوز المصري كان شخصية نابلسية تقليدية وكلاسيكية، حياته كانت تمثيلاً صادقاً لكل ما تعنيه مدينة نابلس من عمق تراثي، وتقاليد وعادات، وتريبة واخلاق، والتزام ومحبة.

 

لا يْعرف تاريخٌ مؤكدٌ لولادته، والاغلبُ أنه ولد عام 1898.وتوفي عام 1994 عن عمر يناهز ال 96 عاماً. والـــده بدوي درويش المصري ووالدته فضية الدويكــات من بلاطة، له خمسة اخوة هم عزت، عبد العزيز، رفعت، مدحت وسعدي، واخت واحدة هي أرحام، وهي الوحيدة التي لا تزال على قيد الحياة.

 

تزوج من ابنة عمه رشدة طاهر المصري عام 1927، عام الزلازل. وكان زواجاً جماعياً حيث تزوج معه في نفس اليوم ابني عمه الحاج نايف من سيدة من آل الانصاري من القدس، وحكمت تزوج من ابنة الحاج أحمد الشكعة، وأخيه عبد العزيز تزوج من شهرات اخت رشدة. أي انه كان واخوه عدايل.

 

لم ينجب الحاج معزوز اطفالاً. وتوفيت زوجته عام 1985، بعد حوالي 60 عاماً من الزواج. وكان لفقدان رفيقة العمر أثرٌ شديدٌ عليه، انعكس بشكل تدريجي على نشاطه الاجتماعي وعلى صحته.

 

تلقى تعليماً بسيطاً ولكن ذلك لم يكن حائلاً أمام نجاحه وتقدمه التجاري، فقد كان ذكاؤه الفطري وعفويته سبباً مباشراً لتفرغه منذ صغره للتجارة ونجاحه بها، وقد عمل سوياً مع ابن عمه الحاج طاهر. كانت التجارة الرئيسية للشريكين، الحاج معزوز والحاج طاهر تجارة مال القبان والحبوب، واستكمالاً لذلك، فقد فكرالشريكان بناء مطحنة الحبوب برأسمال مشترك، وكان هذا المشروع مبادرةً صناعية رائدة وثورية في ذلك الوقت. وفي عام 1935 اشترى ورقة يانصيبٍ إنجليزية، ولم يكن يملك يومها الثمن نصف جنيه، واقترضه من (غلة) المطحنة، وقد ربحت ورقة اليانصيب هذه مبلغ 15 ألف جنيه، وكان هذا المبلغ يعد ثروة كبيرة في ذلك الحين، فاقتسم قيمة الجائزة مناصفة مع شريكه الحاج طاهر، وكانت تلك بداية الثروة للحاج معزوز وبعد سنوات من ذلك تم إنشاء مصنع الكبريت.

 

قبل الحرب العالمية الثانية بقليل وأثناءها وبعدها، بدأت اهتمامات الحاج معزوز التجارية تتفرع. فقد أصبح وكيلاً للمرحوم إميل البستاني، الذي كان المقاولَ الذي بنى عمارات (تيكارت) للدوائر الحكومية في فلسطين، وهي المعروفة الآن باسم (العمارة). ولا تزال هذه العمارات مقراتٍ رسمية وتعمل بصلاحية وكفاءة لأن نوعية البناء والتصميم كانت عالية جداً. كذلك حصل على وكالة سكوني فاكوم للمحروقات، ووكالة شركة ستيل للنقليات.

 

وبعد وفاة الحاج طاهر في تشرين الثاني عام 1943 أصبح شريكاً رئيسياً مع ورثتهٍ في الشركة الأم وهي شركة الحاج طاهر المصري وشركاه، وكان هو والحاج نايــف ابن المرحوم طاهر يديران شؤون الشركة والعائلة، بينمـــا تفرغَ حكمت للشؤون السياسية والعامة.

 

في تلك الفترة كانت الصراعاتُ المحليةُ بين الفئاتِ الفلسطينية محتدمة، وبالرغم من أنه كان كباقي آل المصري محسوباً على المعارضة وضد جماعة الحاج أمين، وبالرغم من صداقته الحميمة للمرحوم سليمان طوقان رئيس بلدية نابلس الذي كان يعتبر من أركان المعارضة، إلا أن اهتماماته الاقتصادية والتجارية، وعزوفه عن التعامل المباشر في السياسة، لم يعرضه لمضايقات سياسية حقيقة، وبقي يحتفظ بعلاقات عادية مع كافة الأطراف.

 

ارتبط الحاج معزوز بصداقة قوية مع المرحوم الملك عبد الله، وكان يزوره باستمرار ويقيم في منزله، وكان المنزل الكبير والحديث الذي بناه الحاج معزوز مناسباً ولائقاً للملك عبد الله وضيوفه، وكان معروفاً لدى الاوساط أن أقرب اثنين للملك عبد الله من غير رجال السياسة كان الحاج صبري الطباع المقيم في عمان والحاج معزوز المصري، وأذكر تماماً كيف حاول الحاج معزوز إقناع الملك عبد الله البقاء في نابلس تلك الجمعة التي اغتيل فيها في المسجد الاقصى، وقد سمعت بأذني حيث كنت أقف قريباً من باب السيارة الملكية، والحاج معزوز يصرُ عليه أن يصلي هذه الجمعة في نابلس،  هو يزورها دائماً ولكنه لم يصلِّ الجمعة فيها ولا مرة وأصرَ الملك عبد الله على أنه لن يغير رأيه ويستبدلَ صلاة الجمعة في المسجد الاقصى بالصلاة بمسجد الحاج نمر النابلسي، وقد تقوت هذه الصداقة وأخذت بعداً سياسياً بعد أن شارك الحاج معزوز في مؤتمر أريحا ممثلاً عن مدينة نابلس، وأيد إعلان الوحدة بين الضفتين، وبالرغم من تلك العلاقة الخاصة، فقد تم وضعه تحت الإقامة الجبرية عام 1958 بعد ثورة العراق، وفيما عدا ذلك، فإن الحاج معزوز لم يتعرض شخصياً للمضايقات والسجن والقمع الذي تعرضت له المدينة ورجالاتها والعديد من أفراد عائلته خلال الفترة السياسية العصيبة التي مرت بها الاردن خلال الفترة 1954-1962 وكانت نابلس فيها عصب التمرد والرفض،  فقد كان خلال جزء من تلك الفترة يشغل منصب رئيس بلديتها.

 

بعد عام 1948 استمر الحاج معزوز في توسيع نطاق أعماله حيث أنشأ شركات في عمان وبيروت ودمشق، واستثمر في العقارات هناك، وكما قلت سابقاً فإن ذكاءه الفطري، وذاكرته المميزة ومبادراته الخلاقة، كانت تؤدي في كل الأحوال إلى النجاح.

 

ولا شك أن أصعب فترة في حياة الحاج معزوز كانت مع بدايـــة الاحتلال الاسرائيلي للضفة الغربية.وكان الاحتلال السريع والخاطف لكل الضفة الغربية وانسحاب القوات المسلحة الأردنية والإدارة الأردنية من أراضي الضفة الغربية قد أوجد فراغاً كبيراً جداً حملَ المؤسسات والشخصيات المحلية مسؤولياتٍ مفاجئة  وكبيرة، وكان على هؤلاء أن يتعاملوا قدر المستطاع مع المحتل لحل قضايا ومشاكل الناس وتأمين حاجاتهم، حمدي كنعان كان رئيس البلدية يوم الاحتلال والحاج معزوز نائبه، وكان من الصعب عليهما أن يتعاملا ودون مقدمات مع الاسرائيلين.إلا أن الظروف فرضت عليهما، وعلى غيرهما.

 

كذلك، هذا الأمر، ولا شك أنه منذ بداية الاحتلال كانت تتفاعل داخل الحاج معزوز عدة صراعاتٍ وعوامل، فهو ذلك الانسان المتديــن والورع الذي يريد أن ينأى بنفسه عن التعامل مع الاسرائيلين اليهود، وهو التاجر الذي حاول جهده الابتعاد عن السياسة ومشاكلها والتصق بعمله التجاري ودوره الاقتصادي، ولكنه في نفس الوقت ابن نابلس وأحد وجوهها البارزين الذين تحتاجهم مدينتهم في الأزمات، وعليه أن يتحمل المسؤوليات التي يتطلبها الوضع، وعليه كذلك أن يؤثر الخدمة العامة على مشاعره الشخصية  وهكذا كان، فبعد استقالة المرحوم حمدي كنعان من رئاسة البلدية عام 1969، أصبح الحاج معزوز رئيساً للبلدية للمرة الثانية،  وفي عام 1972 أرادت إسرائيل إجراء انتخابات بلدية،  ولكن جميع الفعاليات المحلية والسياسية رفضت إجراء هذه الانتخابات في ظل الاحتلال، ووقع ضغط  شديدٌ على المدينة وزعاماتها من قبل الحكم العسكري الاسرائيلي ومن موشية دايان بالذات لفرض هذا الأمر، وأذكر أن دايان أمر بجلب الحاج معزوز بطائرة هيلوكبتر الى وزارة الدفاع في تل أبيب لإقناعه بذلك، ولكن الحاج تهرب من هذا الأمر وطلب العودة إلى أهل البلد للتباحث معهم، وبالفعل فقد عقد اجتماعاً موسعاً لكافة الفعاليات في مبنى البلدية، ورفض المجتمعون مبدأ إجراء الانتخاب، وقرروا أن يتم ترشيح لجنة من بعض الأهالي لتتولى إدارة شؤون البلدية، غير أن دايان رفض ذلك وأصر على الانتخابات،  في نهاية الأمر تم الاتفاق على خوض الانتخابات وأصبح الحاج معزوز رئيساً للبلدية للمرة الثالثة.

 

للعلم فقط أقول إن رؤساء البلدية في نابلس منذ الحرب العالمية الثانية كانوا كالتالي:

سليمان طوقان 1945 – الحاج أحمد الشكعة 1951 – نعيم عبد الهادي 1951 – الحاج معزوز المصري 1955 – الدكتور أحمد السروري 1959 – حمدي كنعان 1962 – الحاج معزوز المصري 1969 وكذلك 1972 – بسام الشكعة 1976.

 

خلال الاحتلال الاسرائيلي حاول الحاج معزوز تنمية العمل التطوعي وحماية المدينة ومؤسساتها من تدخل السلطات الاسرائيلية، فأدار البلدية على هذا الأساس وأجرى كل اتصالاته مع المسؤولين الإسرائيلين من مدنيين وعسكريين من هذا المنطلق، وحمى شركة مصانع الزيوت النباتية التي كان يرأس مجلس إدارتها مـــن أي تدخل اسرائيلي ومن وضع اليد على حصص الحكومة الاردنية والمساهمين الغائبين، وكان يقتطع من أرباح الشركة ليتبرع للجان الزكاة والمحتاجين، وكانت تبلغ قيمة التبرعات حوالي 200 الف دينار سنوياً،  وكان يأتي بل ويستعين بالقناصل الاجانب المقيمين في القدس وبالصحافيين الأجانب ليشرح لهم نوايا الاحتلال بالاستيلاء على الشركة.

 

وفي ظروف الاحتلال الاسرائيلي القاسية، كان يلجأ إليه كل من له حاجة أو اضطرته ظروف الاحتلال القاسية أن يطلب العون والمساعدة، وكان دائماً يلبي نداء الصغير والكبير، الفقير والغني، الضعيف والقوي. وكان السند عند الشدة لهم جميعاً.

 

بعد الحرب العالمية الثانية لم تجر انتخابات لغرفة تجارة نابلس، حيث كان الحاج عبد الرحيم النابلسي آخر رئيس لها عام 1944. وبعد الوحدة مع الضفة الشرقية، أعيد العمل بنظام الغرف التجـارية. وانتخبــــت أول هيئة لغرفة التجارة عام 1953 وكان المرحوم خليل طوقان رئيسها والحاج معزوز نائباً للرئيس، وأعيد انتخابهما عام 1957، وفي العام 1961 تم انتخاب  الحاج معزوز رئيساً للغرفة وحمدي كنعان نائباً له. أما في عام 1965 فقد انتخب كاظم المصري رئيساً وتلاه ظافر المصري عام 1973.

 

كان الحاج معزوز تقياً يخاف الله وذا خلق، يقيم الصلاة دون انقطاع، كما كان رحمه الله محباٌ للناس وفاعلاً للخير، فقد بنى من ماله الخاص مدرستين كبيرتين إحداهما باسمه في بلاطة، والأخرى باسم زوجته في نابلس، كذلك بنى مسجداً باسمــه، ودعا لإعمار مستشفى الاتحاد النسائي ودعمه حتى أصبح صرحاً طبياً متميزاً، كما رعى دار الايتام الملحقة بالمستشفى، شغل على فترات عضوية بعض المؤسسات الخيرية والتطوعية كمجلس أمناء كلية الدعوة وأصول الدين، وجمعية اليتيم العربي. وكان عضواً في المجلس الإسلامي الأعلى للضفة الغربية الذي أنشىء بعد الاحتلال الاسرائيلي ومقره القدس. ودعم الجمعيات الخيرية والمؤسسات الاجتماعية والرياضة وسد حاجتها في عسرها، وأنفق من ماله الخاص على المئات من الطلبة المحتاجين والعائلات الفقيرة، وكان دأبه باستمرار التستر على عمل الخير طمعاً في الثواب وابتعاداً عن الأضواء والنجومية، وبقي هكذا إلى آخر يوم من حياته.

 

أحب السفر في الثلث الاخير من حياته حيث كان يتردد على أوروبا والشرق الاقصى برفقة بعض الأصدقاء، خاصة الشهيد ظافر المصري، الذي أصبح منذ عام 1965 رفيقه ومستشاره وصديقه أيضاً، للتجارة مرة، وللراحة والاستجمام مرات.

 

ومنذ صباه كان يقوم بجولة يومية في المدينة يستطلع خلالها أحوال الناس ويستمع إلى شكواهم ويعالج مشاكلهم ويسعى لإصلاح ذات البين فيما بينهم، ولم ينقطع عن ذلك إلا حينما انكسر حوضه عام 1989 نتيجة وقوعه مما عطل حركته جزئياً حتى وفاته.

 

أيتها الاخوات، أيها الاخوة،

لقد كان الحاج معزوز المصري رجل إحسان وتوفيق وإصلاح، وكم تفتقد نابلس بل فلسطين، أمثاله من الرجال الأبرار وهي تمر في محنتها الحالية، إن هؤلاء الرواد لا يعوضون.

ولا بد لكل من يتحدث عن سيرة المرحوم الحاج معزوز المصري إلا أن يقف وقفة احترام وتقدير أمام هذا الرجل المعطاء، صاحب القلب الكبير واليد المبسوطة والعقل الواعي.

هذا الرجل الذي أحب نابلس وأهلها فأحبته هو الذي نتحدث عنه هذا المساء والذي افتقدناه، فله منا الرحمة والدعاء الى العلي القدير ان يسكنه فسيح جنانه.

 

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

Term of use | Privacy Policy | Disclaimer | Accessibility Help | RSS

eMail: info@tahermasri.com Tel: 00962 65900000

Copyright @ 2015 Taher AlMasri the official web site, All Right Reserved

Image