Image
Image

الأردن والعرب... والقطرية

محاضرة ألقيت بدعوة من الجمعية الاردنية البريطانية بتاريخ 12/6/1996

 

منـــذ بداية هذا القرن، طغت على الأردن ظروف وعوامل جعلت حياته اليومية والسياسية والاقتصادية والاجتماعيـــة، تـــرتبط ارتباطاً لاغنى عنه مع محيطه العربي المباشر اولاً (فلسطين، سوريا، العراق، السعودية وحتى مصر) ومع محيطه العربي الأبعد ثانياً بدرجات متفاوتة، وكثيراً ما طغى اهتمام الأردنيين بوضعهم مع العرب على اهتمامهم بشؤونهم، ولا أعرف بلداًواحداً يعيش مجتمعه المحلي حالته العربية مثل المجتمع الاردني.

ولم يأت هذا الامر من فراغ، فقد كانت علاقات السكان في شرق الأردن ترتبط وتتداخل مع التقسيمات الإدارية في كل من فلسطين وسوريا والعراق ومع المملكة العربية السعودية في وقت لاحق، كقبائل وكحضر.

 

وكان السبب الأول لذلك الارتباط عبر الحدود وليس باتجاه الداخل، هوعدم وجود حدود حقيقية في ذلك الوقت، وعدم وجود حكم أو سلطة مركزية في شرق الأردن، وفي الحقبة اللاحقة عندما توزع أبناء الشريف حسين بن علي في بعض الأقاليم العربية ومنها شرق الاردن، وارثين لدعوة أطلقها والدهم تدعو إلى التخلص من الاستعمار وإلى توحيد المشرق العربي، رحب الأميرعبد الله بن الحسين في إمارته بالقيادات العربية المشرقية التي تركت بلدانها نتيجة لاقتسام بريطانيا وفرنسا لهذه المناطق وفرض الحكم الأجنبي عليها، أو التي ناضلت ضد الحكم العثماني  طلباً  للاستقلال والوحدة.

 

وجاء ترحيبه هذا منسجماً مع نضال عائلته، ومع دعوة والده ومع طموحه الشخصي في توسيع نطاق حكمه،‏ ومع تطور بناء الدولة بدأت شرعية الحكم تعتمد أكثر فأكثر على تلك الدعوة بالارتباط العربي، وأصبح ذلك سنة الحكم وسياسته منذ ان تولى جلالة الحسين الملك.

 

وجــاء التطور الأعظم في هذا القرن، وهو إنشاء دولة اسرائيل على جزء كبير من أراضي فلسطين، بعد حرب قصيرة وغير منظمة، وبعد دخول الجيش العربي وعدد من الجيوش العربية الى الأراضي الفلسطينية للدفاع عن الأرض وحماية السكان، ‏ولما تمت الوحدة بين ضفتي نهر الأردن، أصبح الالتحام الأردني مع فلسطين الارض والقضية التحاماً شرعياً ومتكاملاً، وعمق الأردن بذلك بعده وعمقه والتزامه العربي، ‏وشهدت حقبة الثورة المصرية وجمال عبد الناصر تصاعداً في الشعور والتفاعل القومي، ‏وكان الأردنيون في ضفتي النهر يطربون لهذا النغم القومي، الذي يناسب أصلاً شعورهم وتوجههم. غير أن النكسات التي أصابت العرب ابتداء من حرب 1967، وسقوط كامل فلسطين تحت الاحتلال الاسرائيلي، وكذلك كامل سيناء وجزء من البر المصري، والجولان، وانهيار اسطورة عبد الناصر ثم وفاته بعد فترة قصيرة، أدى ضمن ما أدى إليه إلى تغلب ظاهرة التقوقع العربــي القطري على المد القومي، وظهرت منظمة التحرير الفلسطينية التي بدأت بالعمل على تنمية الهوية الفلسطينية وحصر التعامل بالقضية الفلسطينية معها، ورفعت شعار استقلالية القرار الفلسطيني. وكانت العلامات البارزة على هــذا الطريق، قرارات القمة العربية في الرباط عام 1974 وقمة فاس عام 1982 وقمة الجزائر عام 1988، وكذلك خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت عام 1982 وفك الارتباط بين الأردن والضفة الغربية عام 1988.

 

وكان من نتائج قمة الرباط عام 1974 أنها جعلت من قضية سيناء قضية متعلقة بمصر، وقضية الجولان متعلقة بسوريا وأصبح صراعنا مع إسرائيل صراع أطراف منفصلة.

 

ومع إنشاء مجلس التعاون الخليجي عام 1998، ثم انشاء مجلسي التعاون العربي والمغاربي اللذين انفرط عقدهما بعد سنوات قليلة، بدأت مؤسسات العمل العربي المشترك، ابتداء من جامعة الدولة العربية، تتراجع تدريجياً وتضع،‏ وبقي مجلس التعاون الخليجي صيغة ضعيفة من العمل المشترك بين أعضائه، ولم يتقدم التنسيق بينهم، بل أنه ضعف وحل الــــوهن في مؤسساته، ‏بمعنى آخر فإن المنظمة الأم، جامعة الدول العربية،قد تم نحرها دون إيجاد بديل حقيقي عنها، قمة التشرذم العربي ظهرت دون رتوش أثناء وبعد حرب الخليج، وانكشف الغطاء تماماً عن المرض والوهن العربي. ‏وسار كل بلد عربي في طريقه، وأصبحت القطرية هي العنوان البارز في معادلة الشرق الاوسط.

 

وتحول عيد الاستقلال الذي تحتفل به كل الدول العربية ابتهاجاً بالخلاص من المستعمر وتحرير الوطن من الأجنبي، ليصبح سداً رمزياً أمام الفكر الوحدوي وتذكيراً مستمراً بالحدود والقطرية والنأي عن العمل القومي، ‏ولا يوجد الآن في العالم العربي بلدٌإلا وله مشاكل حدودية مع بلد عربي مجاور أو أكثر. ‏وإذا كنا قد غضبنا على اتفاقية سايكس-بيكو لأنها قسمتنا ورفعت الحدود بيننا، فاننا نقوم الآن بدور الحماة والمنفذين لهذه الاتفاقية.

 

وقد تزامن هذا التردي العربي والانكفاء نحو القطرية، مع التوجه العالمي لإلغاء الدولة القطرية وإنشاء دول التجمع الاقتصادي، الذي يؤدي بالضرورة إلى زيادة التنسيق السياسي، وربما توحيد السياسات واقتراب المجتمعات من بعضها البعض سياسياً واجتماعياً وثقافياً، ‏والاتحاد الاوروبي هو المثال الرائد في عالمنا المعاصر، ‏وسوف تؤدي التكتلا ت الاقتصادية في انحاء متعددة من آسيا وأمريكا الجنوبية إلى نفس النتيجة، ولكن ببطء أكبر وبوضوح أقل، ‏ ولكنها بالتأكيد هي خطوات على الطريق الصحيح.

 

كل هذه العوامل والتطورات العربية والإقليمية والدولية كانت تتجاذب الفكر السياسي والثقافي في المجتمع الأردني من كافة جوانبه وتعصف بالساحة السياسية فيه، وظهر نتيجة لذلك انقسام فكري بدأت ملامحه تتبلور مع ظهور فنات سياسية أصبح فكرها السياسي يعتمد على ترسيخ مبدأ القطرية وحماية الهوية الوطنية، ‏وهو على كل حال توجه تشهده الدول العربية بكل وضوح، ‏وقويت شوكة هذه الفئات وأصبح تمددها الأفقي والعمودي ملحوظاً بعد أن ازدادت الشكوك بعدم امكانية حل القضية الفلسطينية بشكل عادل يعيد للفلسطينين أرضهم وحقوقهم الوطنية، وبعد أن رفضت اسرائيل بشكل كامل مبدأ حق العودة للفلسطينين الى أرضهم ووطنهم، وبعد أن أصبحت نظرية التوطين مطروقة في المحافل الدولية والإقليمية.

كما أن المخاوف تجددت مع تأليف الحكومة الإسرائيلية بزعامة الليكود حول العمل باتجاه إيجاد وطن بديل للفلسطينين.

 

وهنا أسارع بالقول بأن قيام الدولة القطرية بمعناها السياسي المتعارف عليه، أي الدولة الديمــوقراطية المؤسسية التي تطبق مبدأ سيادة القانون وتواكب متطلبات العصر، هي مطلب بل ضرورة. ولكنها ليست الهدف بل هي خطوة للوصول للهدف، فنحن نريد الدولة القطرية كي نستطيع أن نبني دولة الوحدة والاتحاد بين دول كل أقليم عربي وبين كل أقليم عربي، وأقصد هنا بالأقاليم العربية دول المشرق العربي أو الهلال الخصيب، دول الجزيرة العربية، دول المغرب العربي ودول وادي النيل. ونحن في الأردن يجــــب أن نكــــون الــــرواد في دفع المسيرة العربية في هذا الاتجاه، وأن نبدأ بأنفسنا. فالظروف التاريخية والموقع الجغرافي والتكوين السكاني والممارسة السياسية، أمور تدفع وتؤيد أن يكون للأردن هذا الدور المميز.

 

والمصالح الأردنية الأساسية السياسية والاقتصادية مرتبطة مع محيطه العربي وسوف تبقى كذلك، ‏وهــذه على كل حال هي إرادة الإنسان الأردني الأصيلة، ‏وعندما ندعو الى قيام العلاقة الوحدوية بين دولنافإنها يجب أن تبدأ أفقياً وتدريجياً حتى تنضج الظروف والعوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية، عندها فقط نكون جاهزين للوحدة أو الاتحاد.

 

وسوف يكتشف الأردنيون بكافة مشاربهم وتوجهاتهم السياسية وكذلك العرب في كل أقطارهم أن التقوقع القطري لن يفيدهم أو يحمههم أمام الهيمنة الاسرائيلية والمشروع الصهيوني المستمر والطويل الأمد.‏وأن اسرائيل سوف تقضم الأجزاء العربية تدريجياً على مدى عقود من الزمن، ‏تماماً كما فعلت الحركة الصهيوينة في فلسطين ما قبل عام ١٩٤٨، وكما فعلت وتفعل اسرائيل اليوم فيما بقي من أرض فلسطين.‏الحل الامثل في مواجهة إسرائيل الكبرى التي تبنى أمام أعيننا ولحماية التراب العربي في فلسطين والأردن وغيرها من الدول العربية هو في إنشاء سوريا الكبرى ووحدة الهلال الخصيب،‏ واذا لم نفعل ذلك في القريب العاجل ونبني كياننا على هذا الأساس، فاننا سوف نبقى نحرث في البحر، بل سوف تنطبق علينا قصة كليلة ودمنة: أكلت يوم أكل الثور الابيض.

 

 

 

Term of use | Privacy Policy | Disclaimer | Accessibility Help | RSS

eMail: info@tahermasri.com Tel: 00962 65900000

Copyright @ 2015 Taher AlMasri the official web site, All Right Reserved

Image