التطورات الأخيرة في الولايات المتحدة وانعكاساتها العربية
عقدت هذه الندوة في مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت بتاريخ 1/10/2001
حدث ما حدث في الولايات المتحدة، وتم تغطية أحداث 11 سبتمبر الكارثية وتفاصيلها وخلفياتها وتداعياتها بشكل مكثف في كل انحاء العالم، ونحن في العالم العربي والإسلامي أضحينا طرفاٌ مباشراً في كل ما حدث، لذلك يجب علينا أن نتعامل مع هذه المستجدات بشكل عميق ومؤثر، وأن نقرر فيما بيننا سياسات آنية وبعيدة المدى، وأن ننقل وجهة نظرنا وموقفنا إلى العالم أجمع بكل وضوح وحزم وثقة، فهذه الأيام والمواقف مصيرية ليس بالنسبة لمستقبل الصراع العربي الإسرائيلي فحسب ولكنها مصيرية على الأمة.
وإنني أحدد وجهة نظري حول مواضيع البحث بالنقاط التالية:
أولاً: عدم الانزلاق نحو خلق صراع جديد في العالم هو صراع الحضارات الذي تروج له العديد من الجهات اليمينية والصهيونية في الغرب والولايات المتحدة بالذات، وصراع الحضارات به صبغة دينية أكيدة، ويهم الأطراف اليهودية والصهيونية إبراز تلك الصفة حتى يصبح الغرب والمسيحية في مواجهة الإسلام والعرب، وستكون إسرائيل في صف الغرب بطبيعة الحال وسترسخ نفسها كقاعدته الأساسية في المنطقة. وكما شاهدنا عبر كافة وسائل الإعلام خلال الثلاثة أسابيع الماضية فإن التهجم على الإسلام والعروبة قادته إسرائيل والمؤسسات اليهودية والصهيونية في العالم، وقد أخذت أبعاداً خطيرة تؤثر على جاهزية الغرب في الدخول إلى صراع الحضارات، وعناصر هذا الصراع لا تتشكل في الجانب الغربي فحسب، بل في الجانب الإسلامي والغربي الذي لا يرغب ولا يريد لهذا الصراع أن يتكون، بل إنه يجد نفسه في حال الدفاع عن النفس وفي حالة الدفاع عن الهوية والتراث والحضارة، والشعوب التي تدين بالإسلام هي شعوب قديمة وعريقة في تاريخها وتراثها وموقعها الجغرافي، ولهذا فإن دفاعها عن وجودها وهويتها سيكون شديداً وقوياً، كما أن الدين الإسلامي هو دين فعال وقوي وعميق الجذور والالتزام والعمل به يقوم به أتباع أي دين آخر، وهذا عامل آخر يدل على ضراوة الصراع إن حصل، عناصر الصراع موجودة في الغرب نتيجة لأسباب دينية وتاريخية معروفة، ولكنها موجودة أيضاً بسبب التفوق الاقتصادي والصناعي والتكنولوجي. أي أنها إنعكاس لأسباب مادية فوقية ودنيوية إضافة إلى كونها عناصر دينية عقائدية وتاريخية، وهي العناصر نفسها التي قادت إلى الاستعمار والنازية والفاشية والتطهير العرقي والتمييز العنصري واستعمال السلاح النوويوقد مارسها الغرب في بقاع العالم عبر حقب زمنية متفاوتة. أما الشرق فلم تقم عنده أبداً هذه العقائد أو الممارسات.
أما عنصر الصراع في الشارع الإسلامي إذ يمكنني القول فعلاً إن هناك شارعاً إسلامياً بدأ بالتبلور والتكون بعد احداث نيويوك وواشنطن، وأنه تطور مرحب به من قبلي لاننا طالما دعونا إلى التضامن العربي والإسلامـــي. وكنــا جميعاً نؤمن أن ذلك التضامن هو الذي يضعنا على خارطة العالم السياسية، وهو الذي سيساعدنا في حل قضايانا السياسية خاصة قضية الصراع العربي الإسرائيلي، ومن المثير للدهشة أن الضرر الذي أوقعته تلك الأحداث الإرهابية على الولايـــــات المتحدة قد انعكس إيجاباً على تضامن الشارع - ولا أقول الحكومات - العربي والإسلامي.
أقول إن عناصر الصراع في الشارع الإسلامي موجودة بسبب الظلم والقهر السياسي والتراجع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وكذلك بسبب الصراع العربي الإسرائيلي وبسبب الإذلال المتعمد الذي توقعه إسرائيل ومعها الغرب في عقول ونفوس الإنسان العربي والمسلم عبر ستة عقود من الزمن.
وعناصر الصراع هذه بين الغرب والشرق هي عناصر متفجرة ومدمرة على الجميع، وقد تأخذ أشكالاً متعددة، ولنا في التاريخ عبرة، فالقرن التاسع عشر كان قرن الصراع بين القوميات. والقرن العشرين قرن الصراع بين العقائديات، وليس مستغرباً أبداً أن يكون القرن الحادي والعشرون قرن الصراع بين الحضارات أو الأديان.
ولن أدخل هنا في تأثير مفهوم العولمة الذي بدأنا نعيش فيه تدريجياً وأثر ذلك على نُظمنا الاجتماعية والاقتصادية، ولكنني أريد أن أِشير إلى أن الصراعأحد نتائج العولمة وانهيار الحواجز، فقد ظهر أثر الظلم والقهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي في العالمين العربي والإسلامي، في الولايات المتحدة وأدى إلى ما أدى إليه.
خلاصة القول إنه يجب على الجميع في هذا العالم تجنب الدخول في هذا الصراع وعلينا نحن العرب والمسلمين أن نعمل بكل قوة وبصيرة لتجنب ذلك، أما إذا فرضت المعركة علينا فيجب أن نكون جاهزين لها.
ثانياً: التعامــل السياسي العربي مع هذه الأحداث يجب أن يكون وفق معادلة واضحة المعالم دقيقة الخيوط، فالعالم بأجمعه ينبذ الإرهاب بالشكل الذي تم فيه في نيويورك، وعلينا ان نكون جزءًا من هذا، وفي نفس الوقت، علينا أن نقف حازمين في وجه الإرهاب الذي يمارس علينا منذ عقود، وأن نعمل على رفع الظلم الواقع علينا شعوباً وأقطاراً، وعلينا أن ننجح في إستقطاب دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة، للعمل سوياً والبحث في أسباب وجذور الإرهاب، سواء أكان ناشئاً من بلادنا أم من أية بقعة أخرى، وعلينا أن ندفع الولايات المتحدة لاستخلاص العبر مما حدث لها ونجعلها تجيب عـن السؤال التالي: لماذا كل مسلم وعربي من أندونيسيا شرقاً إلى قلب تكساس غرباً يقف ضد الولايات المتحدة ويعتبر سياساتها عدواً له ويرفضها، ويحرق العلم الأمريكي تعبيراً عن هذه الرفض والاحتجاج ؟
وبالرغم من مواقف الولايات المتحدة غير المتوازنة وغير العادلة تجاه القضايا العربية، ومن سيطرة اللوبي اليهودي على صناعة القرار الأمريكي تجاه العالم العربي، ومن خوفنا وشكوكنا من أن بعض ما نشهده من إيجابية تجاه القضية الفلسطينية ما هو إلا تصرف تكتيكي فرضته ظروف الأزمة التي تعيشها أمريكا، فإنني أعتقد أنها فرصة جيدة للعرب كي يعكسوا مسار السياسة الأمريكية والعالم تجاههم فيما إذا احسنوا التعامل السياسي مع هذه الأحداث، وسنجد في الولايات المتحدة قوى سياسية فاعلة تؤيد هذه المراجعة وتؤيد تغيير السياسة الأمريكية، كما أن الدول الأوروبية وبعض القوى الدولية الأخرى مثل الهند والصين واليابان لديها جاهزية أكبر لتقبل ذلك والعمل بموجبه.
إن جهادنا لتغيير الموقف الأمريكي بشكل خاص والغربي بشكل عام يجب أن يتم عبر تحرك عربي جماعي. وهذا أمر طالما طالبنا به، وطالبنا به الأصدقاء من دول العالم، وهو الأكثر تأثيراً وفعالية، وقد ولى منذ زمن أمر الدول الصغيرة أو ذات الجهود المبعثرة، وحل محلها أمر التكتلات السياسية و/ أو الاقتصــادية. وكم كنت أتمنى أن يذهب القادة والمسؤولون العرب إلى واشنطن بشكل جماعي وليس انفرادي، فقد حان الوقت كي يتخلى المسؤولون العرب عن حساسيتهم المفرطة تجاه بعضهم البعض، فتطور الأحداث أصبح أكبر من أي منهم وهذا الجهد العربي السياسييجب أن يعتمد على أسس وقواعد ثابتة ومتفق عليها يعتمد اساساً على ضرورة تطبيق الشرعية الدولية وإزالة الاحتلال بكل صوره وأشكاله وحق تقرير المصير والحصول على الحقوق المشروعة، ووقف الاعتداء على سيادة الدول والتدخل في شؤونها ورفع كل أشكال الحصار عنها.
ولا بد من كلمة سريعة هنا حول أهمية تفعيل النظام العربي الذي يعاني من سكرات الموت، وهذا يتطلب بالضرورة إعادة إحياء مؤسسات العمل العربي المشترك وتقوية عمل ومفهوم ومهام جامعة الدول العربية.إن هذه هي الطريقة الوحيدة لخروجنا من حالة عجز الأمة الذي يكاد أن يصبح مزمناً.
وفي ظني، فإن العديد من دول وقوى العالم سوف تدعو وتعمل بعد أن تهدأ العاصفة والنفوس على إصلاح النظام الدولي وتقوية دور الأمم المتحدة الذي أضعفته أمريكا منذ انهيار الاتحاد السوفياتي وحرب الخليج، وهذه فرصة مناسبة جداً كي تساهم الدول العربية والإسلامية في هذا الجهد، وسيكون صوتها مسموعاً وجهدها محموداً، ويجب أن تكون الدعوة لإصلاح الأمم المتحدة على رأس أولوياتنا القادمة لأن ذلك يحقق لنا العرب والمسلمين فوائد كثيرة ويدعم قضايانا ويحاصر إسرائيل المتمردة على الأمم المتحدة والشرعية الدولية بدعم أمريكي قوي غير عابىء بالحق أو بمشاعرنا.
والتحرك السياسي العربي يجب أن يستعين بالجاليات العربية والإسلامية في الولايات المتحدة وأوروبا بالتحديد وبخبراتها والمطلوب أن تصبح هذه الملايين المنتشرة في كافة أنحاء العالم متواصلة مع جذورها في الوطن الأم وأن تدعم مؤسساتهم، كذلك لا بد من التعامل الذكي والديناميكي مع الرأي العام في الغرب وذلك من خلال تغيير النمط الإعلامي العربي، وإيجاد الوسائل للوصول إلى عقل المواطن والمسؤول هناك. فنحن في العالم العربي نكتب ونبحث ونناقش بكثافة، ولكن شيئاً لا يصل من هذه الأمور إلى عقل أو مكتب صانع القرار أو المواطن الأمريكي والأوروبي، بل يبقى الكلام عندنا.
الرسائل التي يجب إيصالها إلى الولايات المتحدة عبر النشاط السياسي الجماعي والإعلامي العربي هي أن تحالف أمريكا والغرب مع إسرائيل قد أصبح بالفعل مكلفا لهم، وعليهم مراجعة مواقفهم وسياساتهم بشكل جذري، وهذا هو الوقت المناسب لعمل ذلك.
ثالثاً: في هذا السياق نتحدث عن أولوية وحتمية حل النزاع العربي الإسرائيلي وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجولان وجنوب لبنان، كما يأتي رفع الحصار عن العراق وحمايته من الاعتداء عليه وعلى سيادته في نفس السياق، ويأتي أمر دعم الانتقاضة وإبقاء جذوة القتال والتحرير حية إلى أن تتحقــق الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وإنشاء دولته المستقلة والناجزة، على رأس هذه الأولويات.
ولن أتوسع في بحث هذا الموضوع لأن مواقفنا مبدئية ومعروفة وهناك إجماع شعبي ورسمي حولها، لذا لا داعي لتكرارها، إنما يبقى أهمية التاكيد على أن التحرك العربي يجب أن يتم لتحقيق هذه الأهداف وليس غيرها. ويجب على المسؤولين العرب وكذلك الشعوب أن تتأكد هذه المرة من أن تحركها السياسي لن يجهض أو يختطف في منتصف الطريق كما حدث مراراً وتكراراً، هذه المرة سيدفع مرتكب الخطأ ثمن خطئه.
رابعاً: النقطة الأخيرة التي أريد أن أثيرها باختصار شديد، هي أن ما حدث في الولايات المتحدة يجب أن يكون درساً وعبرة لنا في أقطارنا العربية، لقد ثبت بالدليل القاطع أنه مهما كانت المجتمعات والأنظمة السياسية محصنة ومحمية أمنياً أو عسكرياً وسياسياً، فإن القهر والكبت السياسي والظلم يؤدي دائماً إلى العنف الذي ينفجر في وجوه المجتمعات قبل أن ينفجر في وجه الحكام. وإن أضرار هذا الانفجار تصيب الجميع.
والسبيل الأمثل لرفع الضيم والظلم عن الإنسان العربي هو من خلال السير في النهج الديموقراطي واحترام حرية وحقوق الإنسان العربي، وفي تهميش المفهوم الأمني الذي يحيط بالحكام والقرارات. إن شعبنا العربي تواق إلى الحرية وهو أهل لها حتى لو تم إساءة استعمالها من قبل البعض، ولأن ذلك سيكون إلى حين وهو أمر يحدث في كل النظم الديموقراطية، إننا في العالم العربي لا نطالب بالطفرة بل التدرج الحثيث وليس البطيء ونطالب بسيادة القانون وتكافؤ الفرص والعمل المؤسسي.
إذا ما سار العرب شعوباً ومجتمعات وحكومات على طريق تحقيق ما ورد في هذه البنود الأربع، فإنني أعتقد أن مجرى تاريخ العالمين العربي والإسلامي سوف يتغير إيجابياً لمصلحة الشعوب ورخاء العالم.وتحقيق ذلك لن يتم خلال فترة قصيرة ولا بالتمني والانتظار والاعتماد على الغير، بل بالعمل المخطط له الواثق من نفسه وخلال فترة زمنية مقبولة.
أما إذا لم يتم تحقيق أي من هذه العناصر فإن حال العالم سوف يأخذ منهجاً وطريقاً سلبياً، وسوف تزداد الهوة بين الشمال والجنوب وبين الدول المتطورة ودول العالم الثالث، ويزداد العنف والاعتداء على حقوق الإنسان وعلى البيئة والموارد.
على الجميع من الغرب والشرق والعرب والمسلمين والمسيحيين أن يستخلصوا العبر مما حصل وأن يدرسوا التاريخ جيداً وأن ينتهزوا هذه الفرصة لوضع العالم بل البشرية على الطريق الصحيح بعد أن انحرفت عنه. وعلى الولايات المتحدة بالذات أن تعيد تقييم سياساتها ونظرتها إلى العالم، عليها أن تتصالح مع هذا العالم، وأن تعرف أن العصر الامريكي يشارف على المغيب، وأنه أصبح ضرورياً البحث عن نظام عالمي جديد يستبدل النظام ذا الرأس الواحد بنظام يعترف بالقوى الدولية والإقليمية الأخرى ويجعل هذا العالم أكثر عدالة وأمناً وتوازناً.