الأردن في وجه الأخطار الإقليمية
محاضرة ألقيت في منتدى شومان الثقافي بتاريخ 20/12/2004
بداية، أود أن أشكر منتدى شومان الثقافي على دعوتهم لي للالتقاء بهذه النخبة الطيبة، وأحيي الدور الإيجابي الفعال الذي تلعبه هذه المؤسسة في المجال الثقافي الواسع، وإنني على ثقة بأن المؤسسة بقيادة مديرها العام الأستاذ ثابت الطاهر، سوف تبقى منبراً حراً مفتوحاً لكل الآراء والحوارات، وقد اختط مدراؤها السابقون هذه السياسة وآتت أكلها.فشكراً لكم جميعاً.
كما أُحيي وأشكر السيدة الفاضلة ليلى شرف على تقدمتها الطيبة، وكلامها وأسلوبها الرائعين، وعلى إدارتها لهذه الندوة كما أشكركم جميعاً على تكريمكم لي بحضور هذه المحاضرة.
لقد اخترت عنوان محاضرتي (الأردن في وجه الأخطار الإقليمية)، حتى أعبر عن رأيي في حجم ومدى الأخطار والتحديات التي تحيط بالمنطقة، وتؤثر على الأردن بشكل مباشر، وركزت فيها على قضيتين أساسيتين: فلسطين والعراق والاحتلالين الإسرائيلي والأميركي لهما. وقد بينت في المحاضرة ما يفكر فيه ويخطط له الاحتلالان، وليس بالضرورة أن يتحقق هذا المخطط خاصة إذا ما كان لدينا الوعي والتخطيط والإرادة لإحباطه، وحاولت أن أكون موضوعياً وواضحاً في الوقت نفسه قدر الإمكان، خاصة فيما يتعلق بتداعيات الوضع الإقليمي على الوضع الداخلي الأردني؛ وليست أعني بكلامي هنا حكومة ما أو شخصاً بعينه.
أبدأ الحديث عن الجانب الأقرب لناوالذي يؤثر علينا بشكل مباشر وهو الموضوع الفلسطيني، فكل منا يدرك نطاق وحدود المشروع الصهيوني في فلسطين، المعروف والمحدد، والذي يجري تنفيذه على مراحل طويلة الأجل، تعود بداياته إلى ما قبل قرن من الزمن، بوجود أقلية يهودية صغيرة تعيش في فلسطين، ضمن الأغلبية العربية الفلسطينية الساحقة، وقد استطاعت الصهيونية تغيير هذا الواقع تدريجياً حتى أقامت إسرائيل على 78% من فلسطين، وقلبت موازين الديموغرافيا لصالحها بشكل واضح، وفرضت أمراً سعت إلى ترسيخه في الساحة الدولية. حيث أصبحت إسرائيل دولة معترفاً بها، بل وأصبحت مدللة في العالم.
وقد فرضت أمراً واقعاً آخر عندما احتلت باقي فلسطين في عام 1967، إذ باشرت على الفور في تطبيق إستراتيجية المشروع الاستيطاني الصهيوني على الأرض، فشرعت بإقامة مستوطنات صغيرة في أنحاء الضفة الغربية، وتوسعت هذه المستوطنات خاصة حول القدس، وأصبحت مدناً لديها كل البنية التحتية وكل المقومات.
وقبيل الاحتلال الإسرائيلي، لم يكن يقيم في الضفة الغربية يهودي إسرائيلي واحد، لكن تغيرت ديموغرافية الضفة الغربية عندما أصبح عدد سكان المستوطنات حوالي 400 ألف يهودي إسرائيلي، وإسرائيل بقيادة شارون، تسارع الخطى لخلق أمر واقع راسخ لا يمكن تخطيه تقنع به العالم، وربما بعض العرب، بأن العودة إلى حدود العام 1967 أصبحت غير واقعية وغير ممكنة، وأن إخلاء المستوطنات أمر لا يمكن أن يتم بهذه السهولة ولذلك، ستطالب بضم هذه الأراضي والمستوطنات إليها عند استنئاف العملية السلمية. وكما حدث لمرات عديدة في الماضي، فسوف تبدأ المحاولات في كل مكان للترويج للحـــــــــل (الممكن) و (ضرورة التحلي بالواقعية)، تماماً كما حدث في مسلسل التراجعات العربية في فلسطين منذ أكثر من مئة عام، وستكون الأراضي المصادرة لأسباب أمنية، وللطرق الالتفافية، والمناطق الأمنية، والجدار العازل، ضمن هذا الطلب، ليصبح جزءًا من الاتفاق حول المستوطنات، وضمن فرض نظرية الأمر الواقع.
أما موضوع القدس، فقد أصبح أكثر تعقيداً من ذي قبل، إذ بالإضافة لإحاطة المدينة بشكل شبه كامل بما يسمى (الأحياء الجديدة) من جهاتها الجنوبية والشرقية والشمالية، وهي في حقيقتها مستوطنات شرعت إسرائيل ببنائها مباشرة بعد الاحتلال، فقد بدأت منذ شهرين بناء الحلقة الأخيرة من عمليــة تطويق القدس الشرقية بالكامل، وعزلها عن كامل الضفة الغربية، لتصبح داخل الأكثرية اليهودية، وهذا المشروع اسمه "E-1"، وسينتهي العمل به خلال سنتين، وفي حال الانتهاء منه فإنه سيؤدي أيضاً إلى عزل جنوب الضفة الغربية عن باقي أنحائها، وكما أصبح جبل أبو غنيم أمراً واقعاً مفروضاً، وسكنه اليهود بالرغم من الرفض الفلسطيني ومن الضجة الكبرى التي قامت في حينه في فلسطين والبلدان العربية وأنحاء العالم، فإن مشروع"E-1" قد يصبح أمراً واقعاً لا يمكن تغييره حسب رأي العالم. وبذلك، تظن إسرائيل أنها قد حسمت لصالحها تعطيل كون القدس عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة.
أما حق العودة، فقد طرأت عليه تغييرات وتفسيرات متعددة، بما فيها قرارات على مستوى القمم العربية. ويعزو أصحاب الأمر هذه التغييرات والتفسيرات إلى أن هناك أمراً واقعاً بالنسبة للاجئين الفلسطينيين، تكوّن عبر ابتعادهم عن فلسطين، وتشردهم لسنين في أنحاء متعددة من العالم، زادت عن 55 عاماً؛ وتعايش هؤلاء اللاجئين مع البيئة التي يعشيون فيها واندماجهم فيها، أو على الأقل استيعابهم فيها، هذا بالإضافة إلى اختلال الموازين العالمية، ورفض إسرائيل، بشكل قاطع ونهائي عودة أي فلسطيني إليها، لأنها تعتبر ذلك مقتلا لها وإنهاء ليهوديتها، وهو أمر لا يرتضيه العالم.
وللأسف الشديد، فإنني أظن أن الحركة الصهيونية قد خلقت عبر قرن من الزمن تراكماً للأمر الواقع، ستنطلق منه إسرائيل عند استئناف التفاوض -إن حصل تفاوض- حول بنود الحل النهائي فيما يتعلق بالمستوطنات والحدود والقدس وحق العودة، وأذكركم أن الرئيس الأميركي جورج بوش (الابن) كان قد أكد لرئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون، في رسالته بتاريخ 14/4/2004، أن الولايات المتحدة تعترف بأن على الفلسطينيين التعايش مع (الحقائق الجديدة) على الأرض في أي اتفاقات سلام مستقبلية.ومن المتوقع أن (تتجاوب) إسرائيل مع الجهود الدولية لاستئناف المسيرة التفاوضية، لأن ذلك أصبح يناسبها بعد أن أكملت خطوة واسعة على طريق فرض الأمر الواقع على الأرض، وفي ظني أن حكومة إسرائيل الجديدة قد جاءت لتحقيق ذلك بدعم أو تعاطف دولي، وفي هذا الإطار، اختفت تدريجياً مطالبات تطبيق الشرعية الدولية وجعلها أساساً للتفاوض وأساساً للحل، ولم يعد أحد يذكر معادلة الأرض مقابل السلام الملتزم بها منذ صدور القرار رقم 242 عام 1967.
ملخص القول إن إسرائيل تسعى لسلب الأرض، وإنشاء الدولة اليهودية على كل فلسطين؛ أرض الميعاد، وهي تعمل على ذلك بشكل مضطرد هذه الأيام، إذ تعمل على قتل إمكانية إنشاء دولة فلسطينية مستقلة ناجزة، وقد حققت على الأرض عن طريق الاستيطان وغيره نتائج للوصول إلى الهدف المنشود.
ويتفق الرسميون الأردنيون والمحللون السياسيون أن هناك فرصة لا تزيد عن سنتين لإنقاذ مفهوم الدولة المستقلة الناجزة وإمكانية قيامها، فإذا ضاعت هاتان السنتان، سيكون قيام دولة فلسطينية مستقلة أمراً صعباً للغاية، والتحركات الفلسطينية الأخيرة في الداخل والخارج هذه الأيام، كما الحراك الأردني والعربي في هذا الاتجاه، منصبان على عدم السماح بالوصول إلى هذا الوضع وهذه الحالة.
وإذا ما حققت إسرائيل مبتغاها، فإن التخطيط للعقود الثلاث المقبلة سيكون باتجاه العمل على التخلص من أكبر عدد ممكن من فلسطينيي الضفة الغربية، بوسائل وأساليب مختلفة عما تم اتباعه في الماضي، وذلك بطرق تناسب الظرف الإقليمي والدولي. لكن الهدف يبقى كما هو: الأرض من دون سكان، أو بأقل عدد من السكان، وتحت شعار فرض الأمر الواقع. ويحظى هذا المخطط الإسرائيلي بدعم دوليّ يحول دون من مواجهته ويعزز الاستعداد له. فقد فاجأتنا الحرب في عام 1967 فوقع ما وقع، وها هي حالة أخرى مشابهة في أهدافها وليس في أدوات تنفيذهايمكن أن تقع خلال عقد من زمن، وعلينا أن نكون مستعدين لمواجهتها وصدها.
أما العراق، فقد تحول من بلد حظي بتنام في قوته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، ليصبح قوة إقليمية يحسب لها حساب إلى بلد محاصر، ثم بلد محتل، وقد صودرت إرادة شعبه السياسية، ونهبت ثرواته الطبيعية والوطنية، فيما يجري تكريس تقسيمه طائفياً وقومياً لانتزاعه من أمته، وسلب دوره وتراثه. وقد أصبح العراق ساحة تتصارع فيها شتى القوى، الخارجية والداخلية العرقية والدينية وغيرها.
وكما أن حرب الخليج الأولى عقب احتلال العراق للكويت في عام 1990، قد أجهزت تقريباً على ما بقي من النظام العربي ومن العمل العربي المشترك، الأمر الذي ما نزال نعاني منه حتى الآن، كذلك فإن الاحتلال الأميركي للعراق؛ سواء اندحر بسرعة أو تجذر تدريجياً هناك، سوف يترك أثره العميق على لحمة العالم العربي ومستقبله.
لقد خططت القوى المحافظة والصهيونية في الولايات المتحدة، منذ زمن طويل لاحتلال العراق وتدميره، والبقاء فيه أطول مدة ممكنة، كونه يقع في موقع استراتيجي هام، فاحتلال العراق يمكّن الولايات المتحدة، ومعها إسرائيل، من تشكيل تهديد مباشر للأمن الوطني لكل دول الجوار، ويجعل القوات المسلحة الأميركية تقف على حدود تلك الدول، وتؤثر بشكل مباشر في إستراتيجيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل وتجبر بعضها على تحديد مواقفها السياسية بناء على هذا الواقع، وما كان للمشروع الأميركي الذي يدعو إلى إنشاء الشرق الأوسط الكبير، ونشر الإصلاحات التي تراها الولايات المتحدة ضرورية، أن يصدر ويعمم لولا الوجود الأميركي السياسي والعسكري في العراق، والذي يؤمن للولايات المتحدة نقطة انطلاق وضغط وتهديد على الجوار أو بعضه.
وقد أصبح لإسرائيل تواجد لا يمكن إنكاره في الشمال العراقي، وهذا لا يهدد باقي الأراضي العراقية فحسب، بل يؤدي أيضاً إلى تفاقم الصراعات والمخاوف من التلاعب بالقضية الكردية الإقليمية التي تثير مخاوف وحساسيات بالغة في كل من تركيا وإيران. وسوف تستخدم هذه القضية لاستنزاف، بل ابتزاز، تركيا وإيران معاً.
إن التدمير والقتل المدعيين اللذين شهدتهما الفلوجة وغيرها من المدن العراقية، وسّعا الهوة بين السُنّة والشيعة بشكل واضح، فقد بقي معظم الجنوب العراقي هادئاً بل ومتعاوناً سياسياً، بغية حصول الأكثرية الشيعية على حقوقها السياسية، أما الشمال فإنه ما زال يعيش في إقليم شبه مستقل. بينما يتم تدمير المناطق السُنّية من دون رحمة. وقد تسير العملية السياسية في العراق دون مشاركة حقيقية للسُنّة أو تمثيل مجزوء لهم وشكلي في الانتخابات، إذ أن هناك تحشيدا من الشيعة للمشاركة في الانتخابات، وعلى الجانب الآخر هناك تحشيد من السُنّة بمقاطعتها، وهناك مخاوف حقيقية من الامتداد الإيراني في العراق، وأثره على دول الجوار وعلى الوضع الإقليمي، وكما يجري في فلسطين فإن أمراً واقعاً في العراق يجري فرضه بشكل تدريجي، وفي تقديري أن عروبة العراق أصبحت هذه الأيام في خطر.
خلاصــة القول إن الولايات المتحدة تعمل على إعادة تشكيل المنطقة العربية وبناء نظام إقليمي جديد، بدأت جذوره منذ تقاسمت القوى الأوروبية الاستعمارية أملاك الخلافة العثمانية في العالم العربي، وتحــــددت معالمه منذ انهيار النظام العربي بعد حرب الخليج الأولى في عام 1991 وانهيار الاتحاد الســـوفيتي، ثـــم أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. ويأتي احتلال بلاد العرب وإلغاء الدول وحل جيوشها، استكمالاً لهذا المخطط، ولتحقيق أهداف استراتيجية بعيدة المدى للولايات المتحدة، منها إبقاء سيطرتها على منابع النفط في العراق وفي المنطقة بما فيها إيران؛ وإعادة تشكيل الخريطة السياسية في المنطقة بما يخدم أهدافها الإستراتيجية بتأخير نشوء قوة عظمى منافسة لها، والقضاء على كل أمل أو محاولة لخلق قوة عربية أو عمل عربي مشترك، أو إحياء نظام عربي وطني وذلك خدمة لإسرائيل، لتبقى دائماً الأقوى من كل الدول العربية مجتمعة، ولتفتيت الجهد والقدرات العربية، وكما أنجزت إدارة الرئيس رونالد ريغان -الأب الروحي للإدارة الحالية- إستراتيجية تفكيك الاتحاد السوفيتي، فإن تعيين كونداليزا رايس وزيرة للخارجيةوهي الخبيرة في الشؤون السوفيتية، يعد مؤشرا على أنها سوف تعمل على تطبيق نفس الاستراتيجية على المنطقة العربية.
أما الوضع في باقي دول الجوار، فإنه ليس بأفضل حالٍ. وهناك عوامل داخلية وخارجية في كل من سورية والسعودية تعرضهما لضغوطات كبيرة ومستمرة.
الأردن لا يمكن أن يكون بمنأى عن هذه الأوضاع الخطيرة، وسوف يتأثر بها بشكل مباشر، كما هي الحال بالنسبة للأوضاع في فلسطين وبشكل غير مباشركما هي الحال بالنسبة للوضع في العراق وباقي المنطقة. وهذا يرتب على الأردن استحقاقات داخلية لا بد من مواجهتها، لتحصين مجتمعه من الأخطار المحدقة به.وقد آن الأوان كي نجري مراجعة موضوعية شاملة للسنوات الماضية، هدفها الاستفادة من النواحي الإيجابية – وهناك الكثير منها – والتعلم من الأخطاء وتجنب نقاط الضعف في هذه المسيرة.والتاريخ يعلمنا أن تجاهل الحقائق لا يلغيها، وأن تخدير الشعوب هو حل مؤقت. وأمامنا تجارب وأحداث علينا أن نتعظ منها، لنحافظ على الأمن والسلم الاجتماعيين، واستمرار لعبة الانتظار والاعتماد على الدعم الخارجي أو الظروف المواتية، أمر لا بد من تلافيه والابتعاد عنه، لأنه عامل متغير ولا يمكن الاعتماد عليه.
ولا بد أن نقوم بهذه المراجعة لأن المنطقة تموج بكل أنواع الاحتمالات والمصاعب والصراعات والمخاطر. وكما أسلفت، فإن الوضع في فلسطين –الاحتلال والسلطة معاً– ينذران بأشد العواقب على الأردن.وكذلك الوضع في العراق وباقي دول الجوار فالوطن محاط باحتلالين من قوة واحدة متماثلة، هو الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، والاحتلال الأميركي في العراق. ومن دون مواربة أو مبالغة، أقول إن شعار إسرائيل (من النيل إلى الفرات) هو في ذهن الآلة العسكرية الأمريكية واليهودية. وفي ذهن أدواتها السياسية، وهم يعملون على تحقيقه بسياسة التخطيط الاستراتيجي، مستغلين أيضاً ضعف الأمة وتفكك النظام السياسي العربي، وعلينا أن نكون جاهزين وأقوياء داخلياً، كي لا نكون تحت رحمة سيف النظام الإقليمي الجديد، أو تحت رحمة قرارهم وأهوائهم.
نحن بلد محاط بدول عربية كبيرة، نتأثر بها أكثر مما نؤثر فيها، ونظام حكمنا هاشمي له رسالة ورؤى أساسها قومي وقاعدتها إسلامية، ولم تكن رسالته يوماً ضيقة أو محلية؛ استلم الحكم في البدايـــات عــرب من أبناء بلاد الشام والجزيرة العربية، دون اعتراض أو حساسية، وسمــــي جيشـــه (الجيش العربي). وارتبط بالقضية الفلسطينيةقضية العرب الأولى منذ قرن من الزمن ارتباطاً عضوياً لا انفكاك له منه.بسبب التاريخ والجغرافيا وتوازن القوى والأمر الواقع أيضاً؛ منذ إنشاء الإمارة، مروراً بإعلان الاستقلال ثم الوحدة مع الضفة الغربية، فالاحتلال الإسرائيلي لها في عام 1967، ثم فك الارتباط معها في عام 1988، ومن خلال تفاعل الهاشميين مع الأحداث في المنطقة العربيةسواء حقبة جمال عبدالناصر، وحرب اليمن، والوحدة بين مصر وسورية، والحرب الأهلية في لبنان، والحرب العراقية–الإيرانية، واحتلال الكويت، وغيرها الكثير من الأحداث المهمة في الوطن العربي؛ ومن خلال السياسة الأردنية الثابتة في مؤتمرات القمة العربية، ودعم جامعة الدول العربية ومؤسسات العمل العربي المشترك؛ ومن خلال السياسة الأردنية أثناء الحرب الباردة وصراع الأيديولوجيات، في ضوء تلك المعطيات، كان الاردن دائماً يؤكد ويتمسك ببعده العربي القومي، ويسعى إلى تعزيزه، وكان يثقف مواطنيه ويعبىء جيشه على أساس هذه المفاهيم والرؤىء. فنحن في الأردن نكبر بدورنا العربي، ولا انفكاك لنا منه ولا رغبة لنا في الابتعاد عن مشاعرنا القومية، أما بالنسبة للقضية الفلسطينية فإنها في نظري شأن داخلي أردني، لأنها قضية مصيرية لنا. والوضع العربي أو الفلسطيني المتردي لا يعفي الأردن من دوره، ولا يجوز أن يبعده عنه. وإنني من المؤمنين أنه يجب استئناف الدور الأردني في فلسطين، ليس لغايات التنافس مع السلطة الوطنية، أو لغايات تثبيت وضع سياسي ما، بل لدعم البيت الفلسطيني وصموده وتماسكه، وأيضاً دعماً للأمن الوطني الأردني، بمعنى أن لنا مصالح في مفاوضات الحل النهائي لا يمكننا تجاهلها.
ومـــــرة أخـــرى أقول إن التاريخ يعلمنا أن هذه المنطقة خضعت منذ ظهور قضية (الرجل المريض) واقتسام تركة الإمبراطورية العثمانية على يد القوى والدول الأوروبية، إلى تغييرات مستمرة في خريطتها وحدود دولها السياسية من اتفاقية (سايكس-بيكو)، إلى وعد بلفور، ثم تقسيم الوطن العربي بعد الحرب العالمية الثانية وزرع إسرائيل في قلب العالم العربي، واحتلال هذه الأخيرة باقي فلسطين في عام 1967.والآن، ها هو الاحتلال الأميركي للعراق والذي ربما يقود إلى تقسيمه، الأمر الذي سيغير - مرة أخرى - أوضاعاً عربية وحدوداً سياسية، وتشير مصادر أكاديمية وإعلامية في الولايات المتحدة وأوروبا، إلى أن هذا أمر وارد، وأن لا أحد بمنأى عنه.
وطريقنا للحفاظ على الاستقرار والسلم الداخلي والحفاظ على الأمن الوطني الأردني في مواجهة المخاطر الخارجية، ولبناء الدولة الديمقراطية الحديثة هو في التعامل بصدق وجدية وعمق مع الأهداف التالية:
- عليــنا أن نوجه جهودنا لتنصب على بناء حقيقي للدولة الأردنية، لارتباطها بعمقها العربي الإسلامي، كما علينا العمل على بناء مجتمع يحافظ على الهوية العربية والخصوصية الأردنية، فالهوية الوطنية ضرورية في حياة الأمم والشعوب والحكومات، لأنها ذات قدرة تعبوية وفاعلية، والوطنية الحقة هي التي تمكن الشعوب من تجاوز الخصوصيات الجهوية والعرقية والطائفية والقبلية العائلية، وهي التي تحقق الوحدة الوطنية. إن تغريب المجتمع الأردنيوجعل أجياله منقطعة عن هويتها أو ارتباطاتها الوطنية أمر مضر بالمصلحة العليا، وأشدد هنا إن تعزيز التربية الوطنية وعدم تغييب الحس السياسي، أمران يصبان في دعم الانتماء الوطني. وعند نشوء الخطر، ونحن كما أسلفت معرضون لهذا الخطر في كل لحظة وعبر أكثر من جهة، فإن هذه الأجيال والفئات هي التي تحمي تراب الوطن. ويجب العمل باتجاه المحافظة على النسيج الاجتماعي وأن يبقى على تماسكه، وجريمةٌ هي إضعافه، والظن بأن جعل الناس لا تهتم إلا برغيف الخبز، وجعل المجتمع يتجاذبه تعب عام وقهر وحزن شديد، وإيصاله إلى شلل تام، هو أمر يريح الحكومات ويريح البلد، هو ظن واعتقاد خاطئان.
وقناعاتنا راسخة بأن الانتماء الوطني يشكل الدرع الواقية من مخاطر الانقسام والاحتراب.وفي إطاره، يمكن استيعاب أشكال التنوع السياسي والثقافي كافة، بيد أنه ليس شعاراً يستخدم لإقصاء من يخالف سياسة أو مسؤولا. وإفراغ الشعوب من محتواها الوطني ومن انتمائها القومي لتصبح بلا هوية ولا قضية ولا التزام هو فعل ضار بالوطن وأمنه، وسوف يجعل من حقيقة الانتماء الذي يركز عليه المسؤولون عندنا شعاراً يرفعه أصحاب المناصب فقط، ويقلل من إمكانية النجاح في خطط التنمية، كما أن إفراغ المجتمع من محتواه الوطني سوف يسهل مهمة الأعداء من الداخل والخارج لتحقيق مخططاتهم في الأردن.
نعم، نحن بحاجة إلى الإصلاح والتغيير، وندعم إجراءه. ونحن بحاجة لمواكبة التقدم، كي نلحق بالتطور العالمي السريع، ونحول اقتصادنا الصغير إلى اقتصاد السوق، وأن نستوعب بسرعة تطور التكنولوجيا لنسهل حياتنا اليومية، ونلتقي اقتصادياً واجتماعياً وتعليمياً وتنموياً في كثير من الميادين المشتركة مع الغرب الديمقراطي والمتطور، ولكن يجب أن يتم ذلك دون إضعاف الهوية أو الانتماء الوطنــــي. ولا تعارض إطلاقاً بين التغيير والتطـــوروبين الحفاظ على المنظومة الاجتماعية والوطنية. نعم، أقبل أن هناك عولمة، علينا أن نتكيف معها وأن لا نعتبرها كفلسفة أو نمط موجهة ضد العرب والمسلمين. لكنني أطلب عدم الانجراف نحوها من خلال الانفتاح غير المدروس وغير المحدود، فالعولمة هي حرية التجارة وليست عدالة التجارة؛ والعولمة في ظني لا تعني مقارعة الولايات المتحدة ولا السير في ركابها، فلا بد من سياسات لتحفظ التوازن الاجتماعي، نحن نسير نحو العولمة وسياسات السوق والتحرر الاقتصادي، لكننا لا نستعد سياسياً ولا اجتماعياً، فهذه التحولات الاقتصادية المهمة يجب أن تواكبها تنمية سياسية حقيقية. وإنشاء الدولة العصرية ذات المواصفات الديمقراطية المدنية يكون بتعزيز القانون والمؤسسات.
- لا بد من تقوية مؤسسات الدولة الدستورية وإعادة ثقة المواطن بها، إذ ليس سراً أن ثقته بها مهزوزة، ويظهر هذا الوضع داخل المجتمع الأردني بأشكال مختلفة، إن الولاية العامة لمجلس الوزراء هي ركن أساسي من أركان النظام الدستوري الأردني ومن أركان إدارة الدولة، وفي بلد مثل الأردن هي مفهوم صحيح ويناسب التكوين السياسي والإداري والاجتماعي فيه، وأي إضعاف لهذا المفهوم وإعطائه تفسيرات غير صحيحة، تحت مسمى التطوير والتغيير، يُعد أمرا ضارا للإدارة والهيبة، ومفهوم الولاية العامة لمجلس الوزراء ليس نقيض التطوير أو التغيير، ولا يمنعهما. فنحن، كما أسلفت سابقاً، بحاجة إلى ذلك، ولكن دون الإضرار بمفاهيم دستورية أثبتت صحتها ومنعتها للنظام السياسي والإداري والاجتماعي، وإضعاف المؤسسات الدستورية خاصة السلطة التنفيذية، يزج بجلالة الملك لإتخاذ قرارات هي من صلب عمل الحكومة ومسؤولياتها. ومن المفاهيم الدستورية الراسخة والمتفق عليها، أن جلالة الملك محصن من أي مسؤوليات، ويحكم من خلال وزرائه الذين تقع عليهم - وعليهم وحدهم - مسؤولية أعمال يحاسبون عليها ويسألون عنها. وواجبنا جميعاً حماية هذا المفهوم والنص الدستوري.
تفويض مجلس الأمـــة بممارسة صلاحياته، مع المساءلة والمراقبة، بعيداً عن التأثيرات، أمر ضروري ودستوري، ويصب في مصلحة الحكم والتطوير الديمقراطي وتماسك المجتمع السياسي والاجتماعي، ويرفع من نجاعة السلطات الثلاثة في ممارستها لمسؤولياتها حسب ما هو محدد لها في الدستور وثقة المواطنين بها؛ كما أنه يوقف أو يمنع مفاهيم وعادات وممارسات اجتماعية وسياسية وحتى إدارية ضارة، تدخل على مجتمعنا تدريجياً كذلك، هو يحد من صعود الانتهازية التي أصبحت تتحكم بمفاصل مهمة من مجتمعنا، فقد أصبح الانتهازيون يستنزفون كلمات المديح والثناء والنفاق، عبر استخدام كلمات وتعابير جديدة، ويخلقون جبابرة وهميين.
- تحرير الحياة العامة من القيود وأشكال الرقابة المفروضة عليها، بما يسمح للمواطنين التعبير عن مصالحهم المختلفة في إطار توافق اجتماعي وتنافس سلمي، وبناء مؤسسات تتيح للجميع المشاركة في تطوير الأردن وازدهاره. إن الثوابت الدستورية بشأن الوطن والعرش، هي في الوقت نفسه ثوابت شعبية راسخة لا نقاش حولها، وتحرير الحياة العامة وتكريس ديمقراطية حقيقية لا مظهرية شكلية تصب في مصلحة الوطن والعرش، وقد وعد جلالة الملك والتزم مراراً وتكراراً بتحقيق ذلك، لكن مؤسسات الدولة ما تزال تتعثر في هذا الاتجاه لتحقيق هدف جلالته. فنحن لدينا هامش من الحرية وليس من الديمقراطية، ولدينا إعلانات ديمقراطية بينما نحتاج إلى تطبيقات ديمقراطية.
ودواعي الأمن، لمواجهة المخاطر والتحديات الداخلية والخارجية والوضع الإقليمي المتأزم والخطرهي دواع واعتبارات نقرّها، لكنها في الوقت ذاته هي سبب لتحرير الحياة العامة لا تقييدها، لأن حماية الوطن تتم أولاً من قبل المجتمع وبتقوية مؤسساته، ومن خلال تماسك اللُحمة الوطنية والنسيج الاجتماعي واستعداد المواطن للتضحية.
إن الحرية المسؤولة هي التي تبني مفهوم المواطنة الحقيقية، وهي التي تجعل المواطن ملتزماً مدافعاً عن وطنه ومكتسباته، ويشير التاريخ إلى أن وطن الحرية لا وطن القهر هو الوطن الأقـــوى والأشد منعة. وتوازن الحكم بين جميع القوى السياسية وبين مؤسسات الدولة الدستورية، هو أحد صمامات الأمان، باعتباره العنصر الذي يمكن أن يحول دون تنامي الاستقطاب السياسي والحكومي، وهذه ليست دعوة لإضعاف المؤسسة الأمنية، بل دعوة لأن تبقى قوية ويقظة وفاعلة وممارسة لمهامها بتناسق سياسي أمني إداري مرسوم ضمن المفاهيم الدستورية، فنحن شركاء في حماية الوطن؛ مواطنين ورسميين ومؤسسات.
إن الدولة الأردنية ليست معادلة جامدة، تتألف فقط من وزارات ومؤسسات أو هيئات رسمية، إذا ما تمت إدارتها بكفاءة يكون معنى ذلك أن الدولة والمجتمع بخير، فكفاءة هذه الهيئات ضرورية، ووجود تكنوقراط أكفاء يديرونها أمر ضروري أيضاً، لكن هناك جوانب وقضايا سياسية إنسانية اجتماعية وإدارية، وهناك استحقاقات ترتبط بحالة التأزم الاجتماعي والاقتصادي لا تقل أهميةوتحتاج إلى معالجة، وهي معالجة ليس فقط من وجهة النظر الفنية، بل من جوانب اجتماعية سياسية، فالتكنوقراط قادرون على معالجة الشق الأول، لكنهم بالتأكيد غير قادرين على معالجة الشق الثاني، والهم والمعاناة المعيشية لغالبية المواطنين، وما يتعرض له القطاع العام من انتهاكات، بحاجة إلى معالجة موضوعية عميقة، بعيدة عن الشللية أو الجهوية.
- علينا مسؤولية محاربة الفساد بكل تفرعاته وعلى كافة المستويات، فقد أصبح أثر الفساد على المجتمع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والإداري كبيراً، وأصبح يؤذي ويعيق بشكل كبير إمكانات الانتقال إلى مفهوم الدولة الحديثة ومبدأ سيادة القانون، ويخلق صراعات طبقية واضحة، ويسلب جزءًا من دخل المواطن الذي يدفع (دم قلبه) كل صباح في محاولة منه للعيش الكريم وتأمين قوت عائلته.
لقد طالبت كل كتب التكليف الملكية الحكومات بمحاربة الفساد، بل والقضاء عليه، والتزمت تلك الحكومات في بياناتها الوزاريةوفي كل إعلاناتها السياسيةبالعمل لتحقيق ذلك، لكن للأسف بقي ذلك شعـــاراً، فلم يرق الالتزام بمحاربة الفساد إلى حجم وضخامة تغلغله في كثير من مؤسسات المجتمع الأردني، وقد قامت بعض الحكومات بفتح ملفات معينة، لكنها لم تستطيع أو لم ترغب في الاستمرار تحت أعذار وتفسيرات متعددة، ويحاسب فقط الصغار، أما الصفقات الكبيرة التي يعقدها المتنفذون فإنها تتم وتنفذ بعيداً عن المساءلة والمحاسبة، وليس خافياً عليكم أن كثيراً من قصص الفساد والصفقات والعمولات والترتيبات الخاصة أصبحت متداولة بين الناس، وحديث المجالس العامة والخاصة، ولربما تكون هناك مبالغة في بعض الحالات، لكن قناعة الناس ثابتة بوجود الفساد، وبرهانهم على ذلك مظاهر الثراء السريع والمفاجىء للعديد من مسؤولي القطاعين العام والخاص، والذي لا يجد الناس تفسيراً له سوى حالة الفساد، حتى أمر التستر على المحظور والممنوع أصبح غير ذي بال عندهم، بل إنهم يتباهون ويعلنون عن (إنجازاتهم وشطاراتهم).
من هنا جاءت دعوتي لتقوية دور المساءلة والمراقبة للمؤسسات الدستورية، فاستقلال القضاء ودعم نزاهته وإبعاده عن أي تأثيرات واعتبارات، أمر ضروري، وكذلك تحصين دور السلطة التشريعية وتمكينها من لعب دورها الدستوري في الرقابة والمساءلة، وتمكين مؤسسات الرقابة الداخلية في السلطة التنفيذية من القيام بعملها دون عوائق أو اعتبارات ضيقة، ولا يخفى عليكم دور الإعلام الفعال في هذا المجــال، والذي جرى إضعافه واحتواءه بشكل ذكي ومنظم، وكما نؤمن جميعاً وندعو إلى استقلالية القضاء، فإننا ندعو إلى استقلالية الإعلام، ليلعب دوره كاملاً في مراقبة ونقد إدارة الدولة، بشقيها الرسمي والأهلي.
الساحة الأردنية جاهزة وقادرة على تحقيق هذه الأهداف بمعانيها الواسعة، وهناك توافق اجتماعي وسياسي صادق ورغبة جامحة عند السواد الأعظم من الناس لتحقيقها، والقوانين الناظمة لها مقرة ونافذة، وآليات التنفيذ متفق عليها، وهناك ظروف إقليمية ودولية مواتية لتحقيق ذلك، وهناك أناس وطنيون صادقون ومؤهلون راغبون في تنفيذ هذا البرنامج، ونحن بانتظار التنفيذ الفعلي باتجاه ذلك.