Image
Image

احتفال السنوية الأولى للدكتور إدوارد سعيد

ألقيت هذه الكلمة بدعوة من منتدى بيت المقدس للذكرى السنوية لإدوارد سعيد بتاريخ 25/9/2004 في المركز الثقافي الملكي

 

إن احتفالنا بذكرى إدوارد سعيد، واحتفاءنا بفكره الملتزم، إنما هما تثمين حق للعبقرية الراشدة التي نذرت نفسها لخدمة الإنسانية كلها، وأقامت موازين عادلة دقيقة لتفهم شؤونها وقضاياها.

 

وإن مـــن جميــل المفارقات أن تكون هذه العبقرية عربية فلسطينية ذات وفاء جميل لمعدنها الأصيل، ولا يمكننا التعامل مع هذه الشخصية الفذة إلا بالفهم الكامل لمدى تفاعل وأثر هذه الحقيقة في حياته وإنتاجه وفكره.

 

ولـــد إدوارد سعيد في القدس عام 1935، حيث تعلم في مدرسة سان جورج، ثم ارتحل إلى القاهرة، وتخرج هناك في كلية فكتوريا، أكمل دراسته في مدرسة ماونت هيرمون بماساتشوستس وجامعة برنستون، ثم حصل على الماجستير والدكتوراة من هارفارد، وعمل أستاذاً للأدب الإنجليزي في جامعة كولومبيا في نيويورك، وكان منذ نهاية الستينات قد أسس مع آخرين جمعية الخريجين العرب في الجامعات الأميركية، وأصدر نحو عشرين كتاباً، تُرجمت إلى أكثر من عشر لغات أهمها: ”جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية"، و"البدايات: القصد والمنهج"، و"الاستشراق"، و"القضية الفلسطينية"، و"تغطية الإسلام"، و"العالم والنص والناقد"، و"الثقافة والإمبريالية".

 

وقد قامت شهرته واستوى مجده الأدبي على كتابه "الاستشراق" الذي كان فتحاً جديداً في بحث علاقات الشرق بالغرب، فضلاً عن كونه منعطفاً بارزاً في الدراسات الأنثروبولوجية وتاريخ الفن، وخطاب ما بعد الاستعمار.

 

يتبين أثر إدوارد سعيد الكبير في وفرة المراجعات التي تحظى بها كتبه، في مئات الدوريات الثقافية في أميركا وأوروبا واليابان وسائر أنحاء العالم، ثم في الجدل الكبير الذي تثيره أعماله، وفي اتساع دائرة ما يُكتب حول آرائه في الأدب والفن والموسيقى والتاريخ.

 

ولا يخلو توليه رئاسة "جمعية اللغات الحديثة" في أميركا من دلالة عميقة، إذ لم يسبقه إلى رئاستها إلا كبار أعلام النقد والأدب المقارن، مثل رينيه ويليك، ومن هو في مرتبته من الأساطين.

وقد استطاع بما أوتي من بلاغة وقدرة متميزة على اجتذاب العقول والقلوب أن يصبح نجماً ساطعاً تهوي الأفئدة إلى محاضراته، وتهرع إليها النخب الفكرية، ولعله واحد من أبرز أكاديميّ الغرب الذين تمتعوا بمثل هذه الألمعية الساحرة.

 

كان رائداً في تحليل خطاب ما بعد الاستعمار الذي تمخض عن إضاءات موضوعية معمقة لاتجاهين متعاكسين: الآداب الغربية في تمركزها وأساليب تناولها لغير الغربيين، واتجاه آداب الأمم غير الغربية وما يتضمنه من رؤيتها للذات والغرب الذي استعمرها وما يزال يتحكم بمصائرها.

 

ونعرف من خلال مؤلفاتهومن خلال مواقفه السياسية وقبوله عضوية المجلس الوطني الفلسطيني لفترة قصيرةأنه لم يغادر فلسطين، وعمل من خلال فكره ومواقفه على فتح باب الحرية لها ولشعبها، ويبدو جلياً لكل قارىء لإنتاجه الفكري أن معاناة اقتلاعه وأسرته من فلسطين، وتنقله في بلدان عديدة وهو شاب يافع، كانا خلفيته للعالمية والعلم والمعرفة والنقد، وهناك الكثيرون، وأنا واحد منهم ممن يعتقدون أن إدوارد سعيد كان بهذا ينتقم من عملية الاقتلاع، وعنوان كتـــاب سيـــرته الذاتية "Out of Place"، ما هو إلا دليل على ذلك.

 

قال أحد المفكرين العرب (هو حسين جلعاد) إن إدوارد سعيد كان حالة فكرية استثنائية من رحيل الشرق إلى غربه، أو بحث الغرب عن شرقه، وقوة الضمير الإنساني هي الوصف الجامح الذي يمكن أن نصف إدوارد سعيد به، وهي ما نملك أن نفسر به معظم مواقفه وأفكاره.

 

كان وفاء إدوارد سعيد لأصله العربي الفلسطيني سبباً في نظرته الموضوعية المنصفة للقضية الفلسطينية، ولا نستبعد أن يكون هذا الوفاء وراء محاكمته النقدية للاستشراق، وسعيه لتفكيك المركزية الغربية، وإبراز النسق المعرفي الكامن فيها.

 

وكان يرى أن الاستشراق اختراع أوروبي لخدمة مصالح أوروبا وحمايتها، ولإحكام سيطرتها على الشرق. ولذلك، فقد تصور الغرب الشرق تصوراً استعمارياً، عرقياً فوقياً؛ وأعاد تأويل التاريخ والثقافة في آسيا وأفريقياعلى نحو يخدم هذا التصور الاستعماري.

 

ربما كان إدوارد سعيد ثالث ثلاثة، إلى جانب شبنجلر ونيتشه، قاموا بنقد الحضارة الغربية نقداً معرفياً وأخلاقياً في آن، وليس اتفاقاً أو محض صدفة أن ينعى الثلاثة على هذه الحضارة موقفها من "الآخر"، وبخاصة الإسلام؛ كما تمثل ذلك في حديث شبنجلر في كتابه "تدهور الحضارة الغربية" عن "المطلق العربي"، وفي حديث نيتشه عن قسوة ووحشية أولئك الذين دمروا المدنية التي شيدها رجال ذوو أخلاق قوية في المغرب والأندلس، وفي حديث إدوارد سعيد عن غياب الحق والصدق في كتابة "تغطية الإسلام"، وسائر مواقفه من القضية الفلسطينية.

 

لم يكن المرض ليهزم روحاً قوية كروح إدوارد سعيد، ولم تكن مرارة الإحساس بالظلم الذي يقع على شعبه ليهزم معنى العدالة عنده، وكان في كل أحواله عفيف العقل والنفس، سمح الوجدان، وسيبقى هو في وجداننا وسيبقى عملاقاً فلسطينياً عربياً وإنسانيا.

 

 

 

Term of use | Privacy Policy | Disclaimer | Accessibility Help | RSS

eMail: info@tahermasri.com Tel: 00962 65900000

Copyright @ 2015 Taher AlMasri the official web site, All Right Reserved

Image