Image
Image

إدارة الدولة الأردنية بين النظرية والتطبيق

محاضرة ألقيت في كلية الدفاع الوطني الملكية الاردنية بتاريخ 24/9/2007

 

قد يكون عنوان هذه المحاضرة في معناه العام مثيراً للاهتمام وقد يكون جدلياً إلى حد كبير. فنحن نلحظ في الكثير من الأحيان في حياة الأفراد اليومية وفي حياة الدول على حد سواء، أن في تعاملها مع بعضها البعض، ونظرتها إلى بقية العـالم، تفاوتاً يظهر الفرق بين النظرية والتطبيق. وربما سبب ذلك أن كل إنسان ينظر إلى الحياة وإلى مصالحه من منظاره الخاص ويعطي الزمن والحياة، التفسيرات النابعة من وضعه الجغرافي و/أو الثقافي والاجتماعي والاقتصـادي أيضاَ.

 

ويجب أن لا يفهم التعبير الدارج (المعايير المزدوجة) بأنه ترجمة لمفهوم تضاد النظرية والتطبيق أو مرادف له، المعايير المزدوجة هو تعبير سياسي الغرض منه إظهار مدى تلاعب الفرد أو الدولة بمفاهيم غير موضوعية قد تتغير مع تغير المصلحة أو الحاجة، ولدينا نحن العرب والمسلمين أمثلة لا حصر لها حول مفهوم المعايير المزدوجة الذي تمارسه القوى العظمى علينا ويمارسه بعض حكامنا على شعوبهم..وعمق التطبيق الانتقائي للمعايير مشاعر الظلم وعدم المساواة بين الأفراد والدول والشعوب.وعلينا في العالم وفي منطقتنا أن نواجه خلل الشرخ الكبير بين الآمال الكبيرة بنظام عالمي و/أو إقليمي وبين الواقع المر، وكيف نتحرر من خداع النفس بأن الكلام يغني عن الفعل، والترويج الإعلامي يغني عن الممارسة. وفي نظر الكثيرين، فإن الهوة بين التنظير والتطبيق في تزايد، وأن العدمية في تفاقم.

 

تحكـم سياسات الدول اعتبارات كثيرة تحدد مساراتها ومواقفها ومصالحها.وبالرغم من وجود ثوابت ومعاييرعالمية متفق عليها مفروض تطبيقها من خلال منظومة الأمم المتحدة، وشرائع دولية مثل شريعة حقوق الانسان وحماية المرأة وغيرها، بالرغم من ذلك فإن المتغيرات والوضع العالمي على أرض الواقع قد تتجاوز كل ذلك لتصل إلى تحقيق سياسات ومصالح لقوى عظمـى أو قوى إقليمية تتحايل على تفسير المواقف والسياسات.

 

اتفق العالم بعد الحرب العالمية الثانية، على بناء نظام أممي أسماه الأمم المتحدة، ووضع له ميثاق إنساني جيد يحكم العلاقة بين الدول، التي بدأ عددها بالازدياد. وأصبح هناك ما يسمى بالقانون الدولي ومحكمة العدل الدولية وقرارات مجلس الأمن ومنظومة الأمم المتحدة. وتوافق العالم على أن أفضل الطرق لمنع تكرار وقوع حرب عالمية أخرى، والوصول إلى سلم عالمي هو في دعم هذا النظام الأممي وجعله مؤثراً. غير أن الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، والشيوعي بقيادة الاتحاد السوفياتي سرعان ما تلاعبت بهذه المفاهيم بقدر ما. واستفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم بعد زوال الاتحاد السوفياتي وحل حلف وارسو.

 

ووقعت أحداث 11 سبتمبر المأساوية في ظل إدارة أمريكية محافظة. فانطلقت هائجة تحاول استغلال هذه الفرص لتأكيد سطوتها على انحاء كثيرة من هذا العالم خاصة المناطق النفطية. وحاولت أن تطوع العالم والمنظومة الدولية وحتى القانون الدولي لمصالحها وسياساتها وأفكارها. وكان احتلالها للعراق أوضح وأقسى ممارسة في هذا المضمار. وضربت بعرض الحائط كل الثوابت والمعايير الدولية المتفق عليها. وأضعفت بذلك النظام العالمي وهمشت دوره ودور مؤسساته المتمثلة في الأمم المتحدة ومنظماتها. وبينت للعالم كل التناقضات الواضحة ما بين النظرية والتطبيق.

 

كان لابد من هذه المقدمة العامة والقصيرة كي نصل إلى لب عنوان المحاضرة وهو الأردن.فقد كانت مهمة إنشاء الدولة الأردنية الحديثة بكافة الإدارات والقوانين والمعايير مهمة شاقة، وعمل المغفور له الملك عبد الله الأول جاهداً منذ بدايات توليه السلطة في إمارة شـرق الأردن، على إنشاء دولة ذات قاعدة قانونية ومؤسسية، وعلى اتباع مفاهيم وتقاليد في الحكم تستند على الشورى. وكان لديه حس عال بمسؤوليته التاريخية تجاه تنمية الأردن ورفع شأنه ومستوى معيشة أبنائه، وكذلك تجاه أمته العربية خاصة بلاد الهلال الخصيب. فقد كان يؤمن بمؤسسية الدولة وأنها الحامية للنظام العام من الأخطار الداخلية والخارجية. والمؤسسية تخفض الهوة بين فوارق النظرية والتطبيق. وعمل في الاتجاه الداخلي والخارجي بنفس التصميم والإرادة. وكانت مهمته في الحالتين صعبة جداً، وواجه من أجلها حساسيات واحتكاكات وخلافات أصبحت معروفة عبر العقود الماضية، إلى أن حقق وحدة الضفتين وحافظ على الأراضي الفلسطينية التي لم يتمكن الجيش والمليشيات الإسرائيلية من احتلالها، وأصبحت جزءاً من المملكة الأردنية الهاشمية، وهو وضع حمى الضفة الغربية والقدس من الأطماع الصهيونية إلى حين، ولكنه في الوقت نفسه أثار حساسيات عربية كثيرة.

 

وقد ورث المغفور له الملك الحسين هذا الوضع الداخلي والعربي والخارجي بكل تعقيداته وآثاره. وورث مسؤولية الحكم في وقت كان العالم كله يمر في مرحلة الصراع بين القطبين الكبيرين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، والذي أصبح يعرف فيما بعد بالحرب الباردة. وانقسم العالم كله بين مؤيد أو معارض إلى أي من العملاقين، إلى أن أتت حركة عدم الانحياز لتجد الطريق الثالث. كذلك كان العالم العربي يموج بالمشاعر والتوتر والتحدي والغضب بسبب تداعيات الانهزام العربي المذل في فلسطين وفقدان 80% من أراضيها وإنشاء دولة إسرائيل. وفي تلك الفترة كانت دول المغرب العربي تخوض حرب تحرير ضد الاستعمار من أجل الاستقلال. وكانت الفكرة القومية في أبهى صورها وفي أعلى مراحلها مع ظهور جمال عبد الناصر وتعلق الجماهير به، وبدعوته القومية ومساعدته لحركات التحرير العربية وعدائه للرجعية العربية.

 

في ضوء هذه الأوضاع غير المستقرة والمعقدة، كان على الملك حسين والحكومات المتعاقبة أن يقرر سياسته العربية والخارجية. وكان عليه أن يقرر ذلك ضمن حدود المعقول والممكن. فالأردن بلد صغير قليل الموارد محاط بدول عربية أكبر وأغنى منه. كما أنه أصبح الرقم الأهم في التعامل مع القضية الفلسطينية ومتابعــة تداعياتها، خاصة وأن الضفة الغربية بما فيها القدس، بكل ما تعنيه إسلامياً وعربياً، أصبحت تحت سيادته وجزءاً منه.

 

وكان عليه أن يجد المعادلة الصحيحة والدقيقة للتعامل مع هذا الوضع بالغ التعقيد والصعوبة، وأصبحت الكلمة الأساس التي تعبر عن سياسة ومنهج وعقلية الملك حسين وحكوماته في التعامل مع هذا الوضع هي (التوازن). وفي كلمة التوازن معان عميقة كثيرة، خاصة في وضع الأردن الإقليمي والسيــاسي.وقد تفسر بأنها توافق بين النظرية والتطبيق وبين الواقع والممكن، ولكنها حتماً كانت في صالح الأردن على المدى البعيد. وما زالت هذه المعادلة مطبقة وسارية المفعول وصحيحة. وعندما نستعرض بعد قليل عناصر سياسـة الأردن العربية والخارجية، فإننا سنجد أن مفهوم التوازن كان هو السائد. وفيما يلي أبين أهم مرتكزات السياسة الأردنية:

 

أولا: كانت القاعدة الأساسية التي بنى الأردن عليــها سياستـه الخارجية (والداخلية أيضاَ)، تتمثل في أن الأردن جزء من الأمة العربية ومرتبط بها ارتباطاً عضوياً، وهو صاحب رسالة في الدفاع عن عروبته وأمته عبر تاريخه السياسي.والنزوع القومي في الأردن هو أحد أسس فكر الدولة والمجتمع. لذلك عمل الملك الحسيــن رحمه الله على استقطاب الرأي العام الأردني وفئاته الوطنية والقومية والسياسية إلى جانبه. وكان قريباً من نبض الشارع ومطلعاَ تماماً على كل تياراتــه وخلفية الشخصيات التي كانت تتعامل وتـوجه الرأي العام. ولكن الأهم من ذلك أنه أصبح الفيصل بين الأردنيين جميعاً. وكانت أولى خطواته في هذا الاتجاه عندما قام بالاستغناء عن خدمات غلوب باشا التي أتت بشكل مفاجئ ولكنها أفرحت الجميع، خاصة أن هذه الخطوة أتت بعد أحداث داخلية هـزت البلاد نتيجة رفض الشعب الأردني محاولات ربط الأردن بحلف بغداد. وبهذا يكون الأردن قد ابتعد قليلاً عن وصاية بريطانيا التي كان متهماً بأنه مرتبط بها ارتباطاً قوياً.كما أن إخراج غلوب من البلاد أعطى الملك حرية الحركة السياسية بشكل أكثر من السابق ومهد لإجراءات داخلية تبعت تلك الخطوة، ومكنت الأردن والملك من لعب دور أكبر وأهم في مجريات القضية الفلسطينية والعمل العربي الذي كان يقوده جمال عبد الناصر آنذاك.

 

ثانيا: أدار الأردن سياسته العربية بكل دقة معتمداً على مفهوم التوازن.ولم يسمح الملك الحسين بحصول خلافات أو احتكاكات بين الأردن وكل الدول العربية المحيطة به في وقت واحد، بل كان يحرص على أن تبقى علاقته مع بلد عربي أو أكثر علاقة حسنــة وداعمة للأردن وسياسته، وبهذا كان الأردن يجـــد دائماً منفــــذاً له على العالم الخـارجـي. مــرة وحيــدة تعرضـت معادلة (التوازن) للاختلال، بعد مـــوقف الأردن من غزو العراق للكويت ورفضه الدخول في عمل عسكري ضد العراق ونظام صدام حسين. وأصبحت كل الدول العربية المحيطة بالأردن ليست على وفاق معه. وكانت تفرض عليه تلك الخلافات أو الاحتكاكات فرضاً في كثير من الأحيان، وذلك في ضوء وضع الأردن الجغرافي والديموغرافي والسياسي الحساس.

 

ومن خلال هذا المفهوم، فقد كان الأردن والملك داعماً للعمل العربي المشترك وداعياً باستمرار للتضامن العربي.وعمل الكثير وتغاضى عن الكثير في سبيل ذلك. وربما لم يجاره أي رئيس دولة عربية في زياراته المتكررة للعواصم العربية والالتقاء بزعمائها. كما أن الأردن كان يشارك في كل المؤتمرات العـــربية بكافــــة تخصصــــاتها ومستوياتها. حتى حصة الأردن في تلك المؤسسات كانت وما زالت تدفع

 

بانتظـام.وكان ذلك كله ينم عن قناعة بأن الأردن دوره عربي أولاً وثانياً وأردني ثالثاً، وأن ارتباطه بالقضية الفلسطينية كان يحتم عليه ذلك. ولابد من الإشارة هنا إلى أن الحساسيات أو حتى الاعتراضات عند بعض العرب التي أثارها قيام الحكم الهاشمي في شرق الأردن ثم انضمام الضفة الغربية إليه في وحدة اندماجية وبرضى تام وكامل من الطرفين الأردنـي والفلسطيني، ودون اعتراض القوى الدولية بما فيها إسرائيل، كلها عوامل كانت في ذهن الملك حسين عندما كان يحقق وينفذ سياسة التوازن والالتزام العربي والعمل العربي المشترك. وكان رحمه الله يعمل جاهداً على امتصـاص تلك الحساسيات، ولكنه لم ينجح في استئصال تلك الأمور من النفوس بشكل كامل، وذلك بالرغم من النجاحات الآنية التي كان يحققها، وبالرغم من مظاهر الحفاوة والتأييد التي كان يلقاها أو يسمعها.

 

ولم يتحرر الملك حسين من تلك العوامل إلا بعد عقد مؤتمر مدريد في أكتوبر 1991، ومشاركة كافة دول الطوق العربي في إجراء مفاوضات مباشرة مع إسرائيل، ومع توقيع اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية عام 1994، حيث تغيرت صورة الوضع الإقليمي، وقامت السلطة الوطنية الفلسطينية على أرض فلسطين. وعلى كل حال، فإن النظام العربي برمته قد اختل بعد حرب الخليج وبعد توقيع اتفاقية أوسلو، الأمر الذي تطلب من الملك أن يجد نوعاً آخر من التوازنات.

 

ثالثا: القضية الفلسطينية كانت المحور الأهم والأولوية الأولى والمفصل الرئيسي في سياسة وذهن وحياة الأردن، وقد أعطى الأردن كل وقته وجهده  لهذه القضية. وهذا أمر طبيعي ومنطقي. وكان الهدف هو إعادة الأرض وعدم التفريط بأي من حقوق الفلسطينيين وفي مقدمتها حق العودة، واستكمالاً لذلك فإن الأردن بقي متمسكاً بالشرعية الدولية ومطالباً بتنفيذ قرارات الأمم المتحدة. وجعل هذا الأمر حجر الأساس في تحركاته الدولية عبر أربعة عقود من الزمن. وبالرغم من كل ما قيل عبر سنوات طويلة عن لقاءات الملك الحسين مع القيادات السياسية الإسرائيليـة واليهودية، فإنني واثق أنها لم تخرج أبداً عن هذا الإطار، وكان غرضها هو تحقيق تلك الأهداف.

 

اختل الوضع الدولي والوضع الإقليمي ابتداء من العام 2001.وتزامن ذلك مع بدايات عهد جلالة الملك عبد الله واستلامه مسؤولية الحكم في الأردن. فكان لابد من إعادة تقييم بعض السياسات والمواقف الخارجية خاصة والداخلية بشكل عام. بقيت الثوابت التي حكمت مسيرة الأردن الداخلية والخارجية لخمسة عقود، على حالها، بل تم تنميتها وبلورتها أكثر من السابق. واختلفت الأولويات في الشأن الداخلي بشكل طفيـــف بحيث احتلت الجوانب الاقتصادية والاجتماعية الأولوية في السياسات الداخلية. ويــــؤمن جــــــــلالة الملك بأن تحسين مستوى المعيشة للمواطنين هو مفتاح لحلول سياسيــة واجتماعية أساسية، خاصة في ضوء هجوم مفهوم العولمة على الأردن وعلى الإقليم. ورأى أنه من الأفضل أن نضع حلولاً مسبقة لمفاهيم العولمة، لاحتواء سلبياتها بدلاً من أن نقف متفرجين لتداهمنا وتحدد هي مسار الأردن الاجتماعي والاقتصــادي، وهنا عادت نظرية (التوازن) لتأخذ حيزها المطلوب في هذا الجانب من الحياة الأردنية. وتحاول الحكومات الأردنية جاهدة الموازنة بين ضرورات التنمية الاقتصادية وتنمية الموارد وجلب الاستثمار، وبين تحقيق العدالة الاجتماعية والإبقاء على حجم ومكانة الطبقة المتوسطة، بل وعلى توسيعها، وتنمية الموارد البشرية ومنع الفساد والتسيب ومحاربة الفقر والبطالة. وهذه مهام ليست بالسهلة في بلدنا ولا في مجتمعات دول العالم الثالث، حيث نجحت في بعضها وفشلت في الكثير منها. وازداد في هذه البلدان الغني غنىً والفقير فقراً.

 

أما في الجوانب السياسية، فكانت المهمة أصعب وعملية التوازن بين النظرية والتطبيق أدق، في ظل وجود القطب الواحد وإدارته المحافظــة وأحداث 11 سبتمبر، وذوبان مؤسسات العمل العربي المشترك، واحتلال العراق وتزايد الصراعات الإثنية والدينية في المنطقة وازدياد التطـرف وانتشار العنف والإرهاب، والوضع الفلسطيني الذي لا يزال يتعقد حتى يومنا هذا، وارتفاع أسعار البترول. كلها عوامل أثرت على الوضع السياسي في الأردن، الذي يقع في قلب المشرق العربي، ويجاور مراكز الصراع في المنطقة العربية.وجعلت من الضروري إعادة تقييم بعض المواقف وبلورة بعض السياسات.ورفع شعار الأردن أولاً، وكان الموقف الأردني الذي تعرفونه من الوضع الفلسطيني ومن الفيدرالية مع فلسطين.الأردن أوضح مراراً وتكراراً أن توقيت هذا الطرح توقيت خاطىء وغير مناسب. وسيأتي اليـوم بعد إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة الناجزة على ترابه الوطني، الذي نتعامل فيه مع هذا الطرح وهذا الواقع. والأردن وحدوي بطبيعة تكوينه وفلسطين توأم الأردن.

 

تفاعلت الجبهة الداخلية على مدى عدة سنوات مع هذه الأحداث والمتغيرات. وانفتح الأردن على كل هذه الأحداث، وفُتحت أمامه أبواب جديدة كانت مغلقة أو غير موجودة. وبعقلية منفتحة، أخذ الملك عبد الله الصدارة في صناعة القرار، وفتح أفاقاً جديدة نحو مستقبل فيه كثير من التحديث والدخول في مرحلة عصرنة الأردن في مختلف النواحي. وظهر جيل جديد، أصر جلالته على أن يأخذ مركز الصدارة في صناعة القرار وفي صناعة المستقبل. ونتيجة لذلك ظهرت في الأردن مدارس فكرية سياسية لها وجهات نظر حول طريقة إدارة الدولة.

 

مدرسة فكرية تؤمن بالتغيير الممنهج والمتدرج وتقول أن إدارة الدولة تحكمها مفاهيم وثوابت وأسس مبنية على ظروف جغرافية وتاريخية وثقافية وسياسية واقتصادية واجتماعية، تكونت عبرها الدول ومجتمعاتها ومصالحها.فالدولة في نظرهم مكونة من عناصر وشرائح اجتماعية وثقافية متعددة لا بد من مراعاة مصالحها وإيجاد التوازن المطلـوب بينها لتحقيق التزامات الدولة تجاههم. وهذه المدرسة تؤمن بالتوازن بين دور ومهام القطاع العام والخاص، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر. ونظرة هذه المدرسة تعتمد أيضاَ على الأعتراف بالمفهوم الإنساني لمهام الدولة وعلى سيادة القانون وأن الدستور يجب أن يطبق نصاً وروحاً. نظرتها إلى مفهوم المؤسسية نظرة نابعة من كل تلك العوامل. وهي لا تريد أن تتعامل مع مؤسسات دستورية منزوعة الدسم، بل مؤسسات فاعلة.

 

المدرسة الفكرية الأخرى، ومعظم مريديها من الجيل الجديد والمتأثرين بالنظريات الاقتصادية والمالية والاجتماعية في الغرب، تريد إحداث التغيير في المجتمع والإدارة الأردنية بمنهجية مختلفة، ويريدون تطبيق معايير مختلفة إلى حد ما في تلك الجوانب من حياة المجتمع الأردني. فهم يؤمنون بتقليص دور الدولة تدريجياً في إدارة شؤون الناس. ويرغبون بأن تحدد عوامل السوق توجهات وحاجات المجتمع. ويؤمنون بأنه يجب أن تترك الفرصة للمجتمع نفسه بأن يعدل من الخلل الاجتماعي الذي من الممكن أن يخلقه هذا الفكر. وأن المجتمع قادر على تحقيق ذلك حتى ولو بعد حين، خاصة إذا كانت هناك مؤسسات مجتمع مدني قوية وناشطة تستطيع أن تغطي تراجع الدور الحكومي. وأنصار هذه المدرسة يرفضون القول إن مثل هذه الافكار تؤدي إلى خلق مجتمع مادي واستهلاكي وتؤثر على التمسك بالهوية الوطنية.ويشككون في أهمية الأثر الاجتماعي السلبي الذي تحدثه هذه السياسات الاقتصادية. بل هم يؤكدون على أنه يجب إطلاق كافة الإمكانيات لبناء اقتصاد وطني متطور يشارك فيه بشكل رئيسي القطاع الخاص لتحقيق التنمية المستدامة، وتوفير الحوافز لتشجيع المستثمر الأجنبي للانخراط بمشاريع تنموية استراتيجية. ويظهرون رغبة قوية بإجراء التغيير بشكل أوضح وأسرع.

 

كل من هذه الأفكار لها إيجابياتها ولها صلاحيتها، ونعود هنا مرة أخرى إلى مفهوم التوازن أو مفهوم النظرية والتطبيق، بحيث أنه يجب أن يتوازن المجتمع الأردني بكل مدارسه الفكرية بين هذه الأفكار وتلك، ونخرج بسياسة تراعي مصالح كافة الطبقات والشرائح الاجتماعية في كافة المناطق وتراعي ضرورات التغيير وتؤكد على مفاهيم التنمية والإصلاح. رأس الدولة والمؤسسات الدستورية هي التي تقع عليها مسؤولية تحقيق التوازن ووضعه حيز التنفيذ، وتحديد اتجاه بوصلة التغيير.

 

ختاماً أقول أنهومنذ الاستقلال، كانت الدولة الأردنية متصالحة مع نفسها فيما قامت به داخلياً وخارجياً تحقق الإنجاز كلو الانجازالمهم أن نحافظ على ذلك حتى يتمتع أبناؤنا بالمزايا والظروف التي تمتعنا بها. وأي تراخ من قبلنا وأي خلل قد يعيدنا إلى الوراء، وقد يسبب صراعات وانهيارات داخل المجتمع الأردنـي مثلما حدث في بعض الأقطار العربية الشقيقة.وأنتم أيها السادة وأمثـالكم يجب أن تكونوا القاعدة الواعية المسؤولة التي تحقق كل ذلك، بل اقول بـأنكم  يجب أن تكونوا الحماة لذلك.

 

 

 

 

 

Term of use | Privacy Policy | Disclaimer | Accessibility Help | RSS

eMail: info@tahermasri.com Tel: 00962 65900000

Copyright @ 2015 Taher AlMasri the official web site, All Right Reserved

Image