Image
Image

الاردن وسط المتغيرات

محاضرة ألقيت في منتدى الدستور الثقافي (جريدة الدستور) بتاريخ 21/4/2014 ونشرت فيما بعد في الجريدة

 

اسمحوا لي ابتداءً أن أشكر أسرة الدستور على هذه الدعوة الكريمة، وعلى فرصة اللقاء الثمين مع هذه النخبة المحترمة.

 

يـــدُرك الجميع، داخل هذه القاعة وخارجها، مُجمل المشهد العام في المنطقة، ويتفق الجميع بالضرورة، على أنه مشهد مأساوي بامتياز، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وعندما يتم الحديث عن واقع العلاقات العربية العربية من جهة، وعن العلاقات البينية داخل العديد من أقطار العرب، من جهة ثانية، فنحن بصدد ربيع عربي مجبول بالدم وبالخلافات، وبصورة يصعب معها تصور موقف عربي موحد من قضية ما. يُضاف إلى ذلك بالطبع، ما انتهت إليه تقريباً مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية، جراء التنكر التاريخي الإسرائيلي للإقرار بالحقوق الوطنية المشروعة، للشعب العربي الفلسطيني، هذا فضلاً بالطبع عن الصدام التاريخي كذلك، بين مصالح قوى النفوذ الكبرى، والتي تنعكس سلبياً، على حياة ومصالح شعوب ودول المنطقة والإقليم. وقد شكلت الأحداث خطراً حقيقياً على الدولة الأردنية، خاصة وأنه لم يكن لنا سلطة على الكثير من هذه الأحداث.

 

لذلك كان مهما أن يبقيالأردن خطوطه وقنواته مفتوحة مع أكبر عدد من الدول والقوى، كي يحافظ على توازن سياسته تهيئة لقادم يبدو أنه أخطر من الحاضر.

 

لقد قامت ثورات الربيع العربي على حكامها جراء الاضطهاد والتعسف عند تملك السلطة، إضافة إلى الفساد المستشري فيها، والحالة المعيشية المتدهورة للمواطن في كل من تونس ومصر وليبيا وسوريا. واتسمت أنها ثورات "بلا رأس" بمعنى أنها كانت عفوية وشعبية وبلا تنظيم، وكلما انهار نظام جرى التساؤل على من يقع الدور الآن، وفتح الباب على مصراعيه ليقوم النظام السياسي العربي بإجراء الإصلاحات السياسية والاقتصادية ويحارب الفساد ويحافظ على هيبة الدولة ويفصل ما بين السلطات.

 

وفتحت الدول الكبرى والقوى السياسية في العالم عيونها وآذانها على صدى هذه التغيرات والتأثيــرات الشعبية العارمة، والتي كانت تــرسل رسائل متنوعة إلى كل أطراف المعادلة الاقليمية والدولية. فدخل الاتحاد الروسي على خط أحداث سوريا وامتد ذلك الى تفاهم ومصلحة أمنية ليبدأ حزام أمني من إيران والعراق وسوريا وحزب الله بقيادة أو رعاية مظلة روسية، وتشكل هذا الحزام الامني ضمن مصالح متشابكة، ودخلت روسيا مرة اخرى بشكل قوي ومدروس إلى منطقة الشرق الاوسط، وكانت صاكما أن الولايات المتحدة بدأت في إعادة تقييم سياستها تجاه إيران وقررت إدارة أوباما التفاوض معها حول مطلبين رئيسيين لايران وهما البرنامج النووي والاعتراف بايران كقوة إقليمية، والتعامل معها على هذا الأساس. حبة الصوت الاعلى في مؤتمر جنيف الثاني والأكثر تأثيراً.

 

ويبـــدو أن هذا التغيير الجذري تجاه الخليج لم يتم التشاور بشأنه او حوله مع مجلس التعاون الخليجي. وسارت أمور هذه السياسة بنجاح للآن بالرغم من استياء بعض دول الخليج العربي وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، وبالرغم من أنها أوصلت عتبها أو استياءها من هذا الانقلاب السياسي تجاهها بكل وضوح وصراحة للولايات المتحدة.والنتيجة المنطقية لهذه السياسة الجديدة واستمرارها إن لم يفكك المجلس.

 

أما فيما يتعلق بالوضع الداخلي فقد حقق الاردن نجاحا ملحوظا في تجنيب الجبهة الاردنية الداخلية خطر التأثر بالصدام الجاري بالاقليم. ولا شك أن لوعي الشعب الاردني وهيئاته ومؤسساته المدنية والحزبية وقواه الاجتماعية الدور الأكبر على هذا الصعيد، وهو دور اكتمل وبنجاح بالمنهجية المتوازنة للسياسة الداخلية.

 

كما سبق وأشرنا إن القضية الفلسطينية تمثل التحدي الاول، وذلك لما للأثر الجيوستراتيجي والجيوسياسي مع الأردن، وإلى العلاقة العميقة ما بين الأردن وفلسطين وأثر التداخل الجغرافي والمصاهرة الذي جعل العلاقة الاردنية الفلسطينية منفردة ومتميزة بحالتها.

 

ورغم ذلك تم تداول موضوع الوطن البديل في الأردن عبر الكثير من وسائل الاعلام ومن خلال بعض الحراكات والاحزاب السياسية. ونؤكد للحقيقة أن مؤامرة الوطن البديل غير موجودة لا في عقول الفلسطينين ولا في عقول الاردنيين وليس هم من نحتوا هذا المصطلح، وهو بلا شك بضاعة اسرائيلية فاسدة ومنتج اسرائيلي مرفوض.

 

وأنا كلي ثقة أن الفلسطينين لن يتنازلوا عن شبر من الوطن الفلسطيني، ولا عن حقوقهم المشروعه في أن تكون القدس عاصمة فلسطين، وحق العودة والتعويض، ونحن بحاجة الى خطاب هادىء فيما يتعلق بهذه القضية، وضرورة الالتفاف حول دعم القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية.

وسبق أن أشرت في مناسبة سابقة "أن الاتفاق على القواسم المشتركة سينتج قاعدة شعبية متماسكة تستطيع الوقوف في وجة المتغيرات المحتملة أو في وجه أية جهات معادية تريد التخريب في مجتمعاتنا" وهنا بيت القصيد.

 

إلا أن النجاح النسبي في السياسة الخارجية الاردنية وعلاقاتنا مع الدول الاخرى التي ذكرناها سابقا لم تتناسب مع النجاح في قضايا داخلية تتعلق بالوضع الاقتصادي والاجتماعي والاداري للدولة.فالاقتصاد الاردني لم يعد اقتصاداً منتجاً بل أصبح اقتصاد إنفاق حيث تذهب معظم موازنة الدولة إلى بنود الرواتب والتقاعد والدين الخارجي وأعبائه. ولايبقى من الموازنة إلا نسبة قليلة تذهب للإنفاق الرأسمالي.ولم يعد السوق الاردني جاذباً لرأس المال والاستثمار. عدا عن معضلاته الاخرى من دين خارجي وعجز وخلل في جوانب أخرى.

 

ومن المؤكد أن موضوع الفساد الذي ضرب عمق المجتمع الاردن يأثرَّ سلباً وبشكل مباشر على جوانب كثيرة من الاقتصاد، وزاد من عدم الثقة بين المسؤول والمواطن وآذى مشاعر الناس وقناعاتها وانتماءها.

 

ونلاحظ خطط التنمية والجهود التي وضعت في الستينات السبعينات والثمانينات في بناء البنى التحتية كانت بلا شك جهوداً رائعة، ولا زلنا نعيش وردية تلك الحقبة، ولم نحقق انجازات مشابهه لتلك الحقبة حتى الان. ناهيك عن تراجع الاستثمار في مواقع عديدة، وأثر ذلك على البطالة وعلى حركة الاقتصاد.

 

وهذا يقودني للحديث عن قضية الفقر الذي ضرب عمق المجتمع الاردني وأصاب الضرر قطاعاً كبيراً من المواطنين، وتعداها ليصيب الطبقة المتوسطة التي هي العمود الفقري لازدهار المجتمع ولاعتداله. ويقع عاهل مشكلة الفقر بشكل رئيسي على السياسات الحكومية التي أخفقت في معالجة أسبابه. وانعكاس الفقر سلباً على المواطن في الصحة والغذاء والتعليم والمشاركة في الحياة العامة وزد على ذلك تفشي الامراض الاجتماعية.إضافة الى الفشل في تناول الحزم وشبكات الامان الاجتماعية لقضية الفقر في الاردن، الأمر الذي يرسخ قناعة لدى الفقراء وحتى النخبة أن مجتمعهم لا يحقق لهم العدالة والمساواة المنشودة، وبالتالي لا رفاه له ولمستقبل أبنائه، وهذا شعورعلينا الاحتراس ألا يصل إليه المواطن، حتى لا تتسع الهوة أكثر ما بين المواطن والحاكم، ربما يقول البعض أن هنالك مبالغة وسوداوية بالطرح، لكن من هو في جيلنا او أصغر قليلا يترحم ويذكر بالخير السنوات والحقب السابقة، حيث كانت اكثر عدلا ومساواة.

وقد صدر تقرير التخاصية، وهو تقرير مهم، يؤكد على الانتهاكات في السياسة الاقتصادية وبرنامج التصحيح الاقتصادي، حيث استمرت هذه الانتهاكات لسنوات، وأصابت المواطنين بالضرر الكبير.

 

وهذا يدعونا إلى ان نقوم بجردة حساب ونقد سريع للأوضاع الحالية وأن نعمل على تحديث إدارات الدولة والقيام بالإصلاحات التي يتطلع اليها الجمهور، التحديث والاصلاحات يجب أن يتما معا، لأنهما يسيران بخطين متوازيين.

 

نرى أن عملية التحديث في الدولة الاردنية "الحداثة"، يختلف عن موضوع الإصلاح السياسي الذي نطالب به. ونرى أن عملية التحديث في الدولة الأردنية تسير مع الإصلاح السياسي بشكل متين وحقيقة أن هنا غير جائز، فالحداثة لها أبعاد واسعة تشمل كل مناحي الحياة وبالذات الحياة السياسية.

 

فالإصلاح يجب أن يشمل التشريعات التي تعيق التطور السياسي في الأردن وعلى وجه الخصوص قانون الانتخاب والصوت الواحد الذي وضع الإردنيين على قاعدة الاختلاف والذي لا يعبر عن طموحات الشعب. والمحافظة على هيبة الدولة من خلال تأمين فصل السلطات بحيث لا تتغول واحدة على الأخرى. وإصلاح الهيكل الإداري للدولة بصورة جذرية وتحديث المعايير والأنظمة التي تحكم هذه الإدارات. والحداثة عملية يجب أن نسعى لتكون مكوناً اساسياً في حياة وتفكير المواطن الاردني، وفي عقل المسؤول العام.

 

هذه الأوضاع التي ذكرناها تمت معالجتها والتعرض لها بأسلوب علمي وعميق في وثيقة لجنة الحوار الوطني والتي أعتبرها مفصلا رئيسيا في مسيرة الإصلاح في الاردن بشكل عام، إضافة الى التوافق الذي تم على مخرجات هذه الوثيقة والنظرة بعيدة المدى التي تعاملت معها والأفكار الجريئة والإصلاحية التي طرحتها. وهذه الأجندة إن طبقت تدعم مفهوم الدولة الاردنية الحديثة، وتؤكد المشاركة الشعبية الواسعة في صناعة القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي.

 

لقد خرجنا برؤية اصلاحية استراتيجية شاملة، ووضعت إلى جانبها خطة عمل تفصيلية للاصلاح والتغيير في مختلف القطاعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على قاعدة سيادة دولة القانون، وتعزيز التعددية، واستثمار الطاقات البشرية من خلال ايجاد بيئة تنافسية وإصلاح في الجهاز الحكومي لضمان فعالية ادائه واصلاح قطاع التعليم وتطويره.

 

نحن بحاجة الى إعادة النظر في النهج السياسي والسياسات الاقتصادية والاجتماعية، والنظر بعمق أكبر في قضايانا الداخلية كالمواطنة والتربية الوطنية ووضعها في مناهج التربية والجامعات ومفهوم التعليم وربطه بمخرجات سوق العمل واحتياجاته، بهدف تمكين المواطن وتعزيز مساره للمفاهيـــم الشريفة والنظيفة. إن إعادة بناء المفاهيم الخيرة التي تعكس الانتماء تقوم على عدد من الثوابت:

 

كلنا يتفق على أن بسط سيادة دولة القانون يخدم المواطن أولا وأخيرا ويزيل كل التشوهات التي تعيق تقدم الدولة الاردنية وحصول المواطن على كامل المساواة بالحقوق والواجبات، فالمادة الاولى من الفصل الثاني من الدستور أشارت إلى أن "الاردنيون أمام القانون سواء، لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات وإن اختلفوا في العرق أو اللغة او الدين" وأنها الخطوة الاولى لإسقاط جميع أشكال التمييز والتمايز لعصرنة الدولة ونيلها المكانة الدولية الرفيعة بين الدول المتقدمة، والاهم رضا مواطنيها على الوضع القائم.

 

نريد أن نبني الدولة التي يكون فيها لمفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان والحاكمية الرشيدة بمكوناتها سيادة دولة القانون، المساءلة والشفافية وتداول السلطة، مكانتها الراسخة في عقول الشباب القادر على قيادة سفينة التغيير والاصلاح. وعلينا أن نعترف بدورالمرأة الراسخ في حياتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وأن ندعم مسيرتها بالمشاركة الكاملة والفاعلة، وهذا الامر ليس مِنّه بل حق لها، علينا ان نؤكده بقوانينا، والأهم ألا تتم إعاقة مشاركتها، حيث ما زالت فئة ضد المشاركة الفاعلة للمرأة، وهذا يلحق بها ظلماً كبيراً علينا جميعا أن نعمل نحو إزالة هذا الظلم.

 

برأيي أن الجميع يسعى أن تكون الدولة الاردنية في هذا المسار، واضعين نصب أعيننا أهمية التاسيس للمساواة وعدم المس في الحقوق والواجبات وحقوق الأقليات والمواطنة، وإحقاق العدل، وتكافؤ الفرص.

 

جميع هذه النقاط لمن لا يعلم قد وردت في وثيقة لجنة الحوار الوطني، ومن قبلها لجنة الأجندة الوطنيـة. فقد احتوت على تفاصيل كاملة وإجابات واضحة من خلال استراتيجية واضحة وخطة عمل منظمة، إلا أنه للأسف تم وضع المشروع على الرف رغم التأييد الواسع الذي حظيت به من قبل الآوساط السياسية. وأيضا رغم أن الدولة الاردنية كانت سباقة بعد الربيع العربي في تفهم أسباب هذه الثورات وقامت بتكييف سياستها وقراراتها بناءً على ذلك.

 

كلي قناعة أن التعليم محور عملية التطور والتقدم وهو عنوان الدولة الحديثة، لا بل يعكس الحداثة لما يعكسه التعليم من أثر ايجابي وفعال على مختلف القطاعات.

 

ولتطوير التعليم يجب إعطاء اهتمام خاص لعناصر العملية التعليمية التي تتمثل في المعلم، وإلى أهمية التاهيل والتدريب المستمر له وتحسين ظروفه المعيشية ودخله، وتهيئة الظر وف المحيطة بالطالب وتمكينه بالعلم والتربية والمعرفة وإدماج الأهل في المعادلة التعليمية والتطوير المستمر للبيئة الدراسية وتوفير البنية التعليمية المناسبة والعمل على التطوير المستمرالمناهج وأساليب التدريس بما يتناسب والتطور الزمني والحداثة فيها، والتركيز على جودة التعليم. وأن يكون هنالك تخطيط في ربط التعليم ومخرجاته مع سوق العمل ومتطلباته، للمساهمة في الاستفادة من الطاقات دون هدر، الأمر الذي يقتضي التنسيق والتعاون ما بين الحكومة والقطاع الخاص ومؤسسات التدريب المهنية كي يساهم ذلك في تخفيض نسب البطالة.

 

طرحنا تصوراتنا فيما يخص البلد من تحديات من خلال أكثر من منبر ويلوم البعض أنهــــــم أي "السياسيون" يتحدثون بالعموم. وهذا اتهام فيه تعميم ويجافي الحقيقة، وهنالك الكثيرون يسعون لخير ورفاه البلد ولديهم رؤية واضحة بهذا الاتجاه. فلا بأس أن تتشكل لك رؤية تصب في صالح البلد، ومن منطلق وطني بحت، ومن يمتلك رأياً أو تصوراً يخدم مصلحة البلد، حق له، ضمنه الدستور، ليتشارك فيــه، ضمن أصول قنوات الحوار واحترام الرأي والرأي الاخر، ولا بأس باختلاف وتنوع الآراء، وبرأيي لولا هذه الديناميكية الحوارية السائدة بالمجتمع الاردني، لآلت الأمور لوضع لا نرتضيه.

 

 

Term of use | Privacy Policy | Disclaimer | Accessibility Help | RSS

eMail: info@tahermasri.com Tel: 00962 65900000

Copyright @ 2015 Taher AlMasri the official web site, All Right Reserved

Image