الأردن... الغواصة
مقال نشر في جريدة العرب اليوم بتاريخ 11/11/2014 ويمكن الرجوع إلى ملحق كتاب ومعقبين منشورة في الملحق في نهاية هذا الكتاب
بدأنا نفتقد للإثارة عندما يقال للرأي العام بأن المنطقة تشهد تغييرات جذرية أو أنها تمر بمرحلة تاريخية أو أننا نقف على مفترق طرق، وما إلى ذلك من تعبيرات تنبىء أو تتوقع أو حتى تتكهن.
منذ عقود يتعايش المواطن العربي والأردني مع هذه التعبيرات ويتعامل معها لكنها للأسف تبرز بنمط مغاير لمسار التاريخ فيما تسوء أحوال الأمة وتتراجع نظرة العالم عن للإقليم، وتزداد شعوب منطقتنا فقراً وانغلاقاً فكرياً.
في هذا الزمن، أصبح النظام العربي آيلاً للسقوط، وهناك حروب ونزاعات وصراعات بين مكونات بعض المجتمعات العربية، قبلية أو طائفية أو عقائدية، تنهك هذه المجتمعات وتدمر النسيج الاجتماعي فيها والبنية التحتية.
ويتــراجع مفهوم الدولة في ذهن المواطن العربي، ليضعف ذلك في كثير من الأحوال الانتماء إليها، ويضعف كذلك مصداقية الحكومات والأنظمة عند شعوبها.وتساهم مواقف الدول الغربية الكبرى في تعزيز هذا الضياع وحالة التيه فالولايات المتحدة غيرت من سياستها تجاه الخليج العربي. والعلاقات الامريكية الإيرانية تعود تدريجياً إلى سابق عهدها من ارتباط مصالح الطرفين مع بعضهما البعض، وتتراجع أهمية دول مجلس التعاون الخليجي وأهمية نفطها باستمرار لأسباب مختلفة لأن بدائل نفط الخليـــج أصبحت متوفرة.
ونجـــد صعــــوبة فــــــــي تتبع البوصلة الأمريكية نحو الشرق الأوسط.
ولا يتردد البعض في اعتبار الولايات المتحدة في ميزان (القوة العاجزة). وأصبحت إيران صاحبة قرار في المنطقة وتمسك بين أصابعها خيوطاً كبيرة وكثيرة لتحسب على أنها قوة إقليمية وتعامل من قبل القوى العظمى على هذا الأساس. وما زالت القضية الفلسطينية مستعصية على الحل، بل إن أحداث الحرم القدسي الشريف تشير إلى أن إسرائيل حكومة ومجتمعاً، تزداد تطرفاً وصلفاً.
لن يصدق أحد وعود نتنياهو الاخيرة، فالجميع يعرف مراوغاته وكذبه والاردن الرسمي أول من يعرف ذلك، وفي هذا الوقت بالذات، تقوم الحكومة بإجراء مفاوضات جدية لاستيراد الغاز من إسرائيل بأسعار تفضيلية ليرتبط قطاع الطاقة الحيوي بأكمله بالقرار الإسرائيلي وبالمزاج بل بالأهداف والمصالح السياسية الإسرائيلية.
إسرائيل تتجه لتحقيق هدفها المعلن بالسلام الاقتصادي الذي يدعو له شمعون بيريز عبر إنشاء البنيلوكس في المنطقة (أسوة بنيلوكس هولندا، بلجيكا، لوكسمبورغ).
في تقديري هذا توصيف واقعي لما تمر به المنطقة.ونحن في قلبها ومعرضون لكل تداعياتهــا. ويمكنني تشبيه وضع الأردن اليوم بالغواصة التي تغوص في أعماق البحار... تقاوم كل الضغط الهائل الواقع عليها، ويعيش طاقمها داخلها بشكل طبيعي ومريح. ولكن أي خلل يقع في معداتها ومحركاتها، سوف يعطلها ويعرضها لأخطار شتى.
لذلك، تكون الغواصة عادة مصنوعة من أفضل المواد وأحدث ما توصل إليه العلم والتكنولوجيا.وتقوم الطواقم المعنية بإجراء الصيانة المستمرة والصارمة عليها حتى تبقى آمنة وفاعلة.
تقودني هذه الصورة لأن أطلب أن يبقى الأردن محصناً من داخله أولاً حتى يبقى آمناً وعاملاً ومفيداً إذ إن خطر هذه الموجة العارمة في التشرذم والانفصال المبني على الهويات المصطنعة والضيقة، سوف يؤدي إلى تآكل في معدن الوطن والأمة.
وقد ناديت مراراً وتكراراً بضرورة إجراء مراجعة شاملة لكل سياسات الدولة واستخلاص العبر من الماضي بأخطائه وإنجازاته ووضع الخطط والاستراتيجيات لحقبة العقدين القادمين، لأنني أجزم بأن هذين العقدين سيكونان مختلفين عن العقدين السابقين وسيكونان أكثر تعقيداً وصعوبة.لقد عبرنا مرحلة مهمـــة في حقبة وولاية جلالة الملك عبدالله الثاني الهاشمية، ليستمر التحدي ويزداد تعقيدا في القريب العاجل.
للاستمرار في العبور الآمن وتجنب المطبات وموجات التسونامي، وإنارة، ولو جزء من ظلمة الأعماق حتى تتلمس الغواصة الأردنية المتينة دربها في لجة المحيط الملتهب فإنه لابد من التوقف والتزود بـــوقود المراجعة الشاملة والجذرية خصوصا للنظام الإداري والهيكلي الذي تعمل بموجبه الغواصة الأردنية، بمعنى إجراء عملية "صيانة" شاملة للهيكل وتقييم أدوار الطاقم، والاحتياط في الوقود، ومراجعة التشريعات والنمط الإداري استعدادا للبقاء بأمان في الأعماق.