"الأردن في بيئة إقليمية متغيرة – سيناريوهات المرحلة المقبلة"
ألقيت هذه الكلمة في مؤتمر دعا له مركز القدس للدراسات السياسية وجامعة العلوم التطيبقية الخاصة في عمان في فندق الرويال بتاريخ 29-31 اب 2015
يسعدني أن أكون بينكم اليوم للتداول في قضايانا المصيرية، وأرجو لمؤتمركم هذا النجاح في أن تكون مخرجاته، عناصر توعية ووعي لاوسع نطــاق، وهذا ما عودنا عليه الأستاذ عريب الرنتاوي ومركز دراسات القدس.
إن إنهيار النظام العربي بهذا الشكل المريع، كانت له أسبابه وستكون له تداعياته العميقة الأثر أيضاً.والأردن الواقع في قلب الشرق العربي، والمحاط بدول عربية أكثر منه سكاناً وثروة، يتأثر بمحيطه العربي، سلباً أو إيجاباً أكثر من أي بلد عربي آخر. اليوم تقف على حدوده مع سوريا والعراق قوى القتل والتدمير تتربص به وبكيانه وأمنه، كما أنه مهدد بشكل واضح وعلى المدى المتوسط والبعيد بتداعيات القضية الفلسطينية المستعصية الحل، فمن ناحية، يعمل الأردن على تجنــب الظروف والأخطاء التي أدت إلى تداعي الدول في دول الربيع العربي، وهي كثيرة ومنها: التفشي الطائفي، وانتشار الفساد والاستبــداد والتبعية، وعدم الكفاءة في إدارة الدولة، وفشل العديد من برامج التنمية، والسيادة المنقوصة، وغياب دولة القانون، وتغييب الديموقراطية وحقوق الانسان والحكم الرشيد، وغياب الدولة العميقة، وضعف الأحزاب السياسية وتهميش دور المجتمع المدني وغيرها، وهي كما نرى أمور هامة ومعقدة تجعل من الصعب التغلب منها على الترسبات العميقة في المجتمعات العربية. ويدور جدل موسع حول جدية الحكومات في إجراء الإصلاحات اللازمة والواضحة للوصول إلى هذا الهدف. وتتزاحم الآراء والاتهامات والشكوك في الساحة السياسية الأردنية حول حقيقة نوايا الحكومات في السير بخطوات مدروسة نحو الإصلاح.
هنــــاك مـــن يرغب بإبقـــاء الوضــع الحالي الداخلي علـــى ما هو عليه (Statues Quo) مع بعض الإصلاحات الشكلية معتبــرين أنه (ليس بالإمكان أبدع مما كان) وينادي البعض الآخر بترك هذه الفترة الحرجة والخطرة تمر بدون أن نهز القارب حتى نتجنب تداعيات وسلبيات الربيع العربي، ونحافظ على أمننا ثم نتولى أمــر الإصـــــلاح والدمقرطــــة (على راحتنا) وبالتدريج.
وهناك من يقول، وأنا منهم، أن هذا هو الوقت المناسب لإجراء الإصلاحات المتدرجة والواعية، لأن ما حدث في بلدان الربيع العربي هو تراكم تلك القضايا والسياسات التي انفجرت فيما بعد في وجه الحكام وتسببت بهذه الفوضى والدمار، كان بإمكانهم تناول حبة اسبرين للعلاج ولكنهم تأخروا فأصبحت العملية الجراحية ضرورية.
من جهـــة أخرى على الأردن أن يتعامل مع القضية الفلسطينية بكل تفاصيلها وتعقيداتها وانعكاساتها، في وقت نجد أن إسرائيل تعمل على تحقيق أهدافها في المحطة الثالثة الأساسية من استراتيجية إنشاء دولة إسرائيل التوراتية، المحطة الأولى كانت إنشاء الدولة، المحطة الثانية كانت القدس والمرحلة الثالثة الحالية هي بناء الهيكل المزعوم رمز الدولة اليهودية التوراتية ورمز استكمال المشروع الصهيوني بناء الدولة التوراتية وهي لليهود فقط، أي أن تحقيق يهودية الدولة هو الآن في مرحلة التنفيذ.
هذه هي صورة قاتمة ولكنها واقعية، وعلينا أن نواجهها بكل صراحة ووضوح وتصميم، قد لا يرى البعض أن هذا الخطر قادم أو أن الأولوية هي لمجابهته، بل يعتبر قلة من السياسين الأردنيين أن خطر الانتشارالإيراني في الدول العربية له الأولوية في المجابهة، وقـــد لا يبدو هناك مظاهر تهديد في الوقت الحاضر، إلا أن إسرائيل تخطط وتضع الهدف وتعمل على تهيئة الظروف للوصول إلى الهدف ولو على مراحل، بحيث لا تشعر الأطراف المعنية إلا والهـدف قد تحقق. وغياب أي مشروع نهضـــــوي عربي، أو خطاب سياسي عربي موحد، أو خارطة طريق عربية، يسهل على إسرائيل تنفيذ مخططها، وعلى العالم التهرب من مسؤولياته. ويزيد من خطر تداعيات هذا المخطط على الأردن.
هذه الأخطار والتهديدات المحدقة بنا من خارج حدودنا أمر معروف، ومعروف أيضاً أن جاهزية القوات المسلحــة والأجهزة الأمنية، ومصداقية وإعجاب دول العالم بالقيادة الهاشمية وحكمتها، ووعي الشعب الأردني في عدم الإنجرار إلى صراعات تودي بالأمن والاستقرار الداخلي، لصالح الدمار والدم.كلها عوامل أدت إلى الإطمئنان إلى جاهزية الأردن للتغلب على تلك الأخطار. وهيأت هذه المصداقية مكانة مرموقة للأردن في العالم. وهذا الوضع المميز هو نوع آخر من الحماية من التهديدات الخارجية.
الخطر الأكبر والتحدي الأساسي الذي سنواجهه هو خطر تداعيات الصراعات الإقليمية والتحالفات الجديدة على الجبهة الداخلية، ويبدو أن المسؤولين والأجهزة لا تعي حجم التغيير الذي طرأ على قناعات ومفاهيم الناس وتكوينهم الفكري وخاصة عند الشباب، لقد آن الآوان أن نتفاهم على أمور أساسية، وان نفتح الملفات وننظف الجروح والتقرحات بغرض شفائها.
مــــن أيــــن نبــــدأ ؟؟
الخطوة الأولى هي اتخاذ القرار السياسي الواضح بضرورة السير في هذا النهج.نهج (الثورة البيضاء) التي نادى بها مراراً وتكراراً جلالة الملك عبد الله الثاني وطال انتظارها، آخر صيحات الملك هي في الأوراق النقاشية الخمسة التي وضعت بين يدي الحكومة والناس منذ سنوات. ولم ينفذ منها إلا القليل حتى أن جلالته أظهر في مناسبات كثيرة عدم رضاه عن مفهوم (قل ما تريد، وانا أفعل ما أريد) الذي طبقته الحكومــات، المحتوى الفكري وخارطة الطريق الإصلاحية حددتها تلك الأوراق النقاشية، ومنها نبدأ.السؤال الكبيرهو: لماذا تعاملت الجهات الحكومية مع هذه الأوراق والأفكار بهذه الطريقة؟ هل هو التجاهل المقصــــود؟ وهذه الأفكار موجودة أيضاً في توصيات لجنة الأجندة الوطنية، ولجنة الحوار الوطني، ويتساءل الكثيرون من يعطل تنفيذ هذه الأفكار المستنيرة؟
إن واجـــب الوزارات والدوائر والمؤسسات وضع الخطط وإقتراح الأفكار والبدائل لأن ذلك في صلب مهامهم، ولهذا يتولى المنصب وهذه هي مهمة المسؤول الحكومي. نحن نضع أصبعنا على الجرح وتقدم التشخيص وإذا ما اقتنع المسؤول بصحــة الرأي تقوم كوادر الجهة الحكومية المعنية بوضع السياسة والتشريع.
الخطـــوة التالية تكون في رأي، بإختيار مجموعة من الأشخاص المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة (وهنا لا أقصد النزاهة المالية فقط) والشعور بالمسؤولية ليتولوا تنفيـــذ هذه الخطط بعد أن يكونوا قد جلسوا قبل توليهم المنصب الوزاري أو غيره، وأقروا إستراتيجيات في كافة القطاعات. وتعاهدوا على احترام تلك الإستراتيجيات والخطط والأفكار. وأن يعملوا كفريق متعاون ومتفاهم فيما بينهم. إن إظهار الجدية والحـــزم في تطبيق القانون بدون مجاملة أو مفاضلة سيعيد هيبة الدولة، وهو أمر أصبح ضرورياً.
هذا لا يعني أن الأمور سوف تسير بسلاسة، ولكنها رسالة واضحة تعني أن الدولة جادة في تطبيق القانون على الجميع.
السيدات والسادة،
الأفكار والاقتراحات كثيرة وطويلة وتم بحثها ومناقشتها بتوسع وسوف أذكر هنا بعض هذه الأفكار دون التطرق للتفاصيل:
أولاً: ضرورة منح منظومة التربية والتعليم العناية اللازمة وإصلاحها وتوجيه الاهتمام بما يتناسب وعصرنة التعليم في القرن الحادي والعشرين بالتعامل مع المنهاج والمعلم والبيئة المحيطة والطالب بعلمية ومنهجية، حيث أن هنالك تراجع كبير في هذه المنظومة. ولا يغيب عن بالنا أهمية ربط هذه المنظومة بثورة المعلومات والتكنولوجيا، وبناء كليات مهنية متقدمة بحيث نشجع الطلبة وأهاليهم من التقدم للتسجيل فيها.
ثانياً: تشجيع التوجه إلى اقتصاد منتج ليساهم في تخفيف معدلات البطالة وتخفيض نسب الفقر والفقراء وتحسين الظروف المعيشية الصعبة التي تعاني منها قطاعات واسعة من المواطنين وعدم الشعور بالأمــان الاقتصادي والمعيشي، ووجود أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل خاصة في المحافظات، ويبدو أن هذا الجرح يتعمق بالرغم من كل الجهود والأموال التي تبذل لتحسين الوضع.
اتخــذت الحكومة إجراءات مالية وضريبية قوية أدت إلى إضافة أعباء قاسيـــة على المواطن العادي، وبغض النظر عن ضرورة هذه الإجراءات أو عدمها، فانها أدت إلى زيادة الأعباء على كاهل المواطن، وانضمت شرائح جديدة من المجتمع إلى طبقة الفقراء. إن إفقار المواطن او المجتمع له تداعيات بعيـــدة المدى على حياة ومسار الامة. وتتغير كل المفاهيم والقيم عند الفرد أو المجتمع في ضوء وضع الفقر.وهناك بوادر تشير إلى أن ذلك يحدث في الأردن، وهــو أمر خطير.
ثالثاً: ضرورة المعالجة السريعة لعوامل سياسية متعددة، منها تداعيات الصوت الواحد في قانون الانتخاب والتيأدت إلى تبعثر الإنتماءات وإبتعاد عن المفاهيم الوطنية العامة اضافة الى مفاهيم الجهوية والعشائرية، الأمر الذي أدى إلى تراجع مفهوم المواطنة والدولة والإنتماء إليها. كذلك قضايا الفساد التي يتداولها الناس بشكل واسع مع قناعات سلبية حول آلية محاربة الفساد ومعاقبة الفاسدين. وأهمية معالجة تعثر البلديات وعدم قدرتها على تلبية حاجات الناس، وكذلك استفحال البيروقراطية في النظام الإداري الأردنــي حتى أصبحت معطلة لمصالح الناس.
رابعاً: العمل على وضع الخطط الفعلية وتنفيذها نحو مشاركة أكبر لجيل الشباب الذي يزيد عمره عن (25) عاماً وأصبحت نسبته أكثر من 50% من المجتمع الأردني، تأثر بالعوامل السابقة، إضافة إلى أنه عاش في ظل شبكة المعلوماتالتي وفرت له معلومات وحرية تعبير لا سابق لهما.
ولذلك فإن التكوين الفكري والسياسي والاجتماعي لهذا الجيل اختلف عن تكوين من سبقهم من أجيال هو جيل يمكن القول بأنه متمردٌ، لعدم توفر الظروف المناسبة له، قياساً على معايير الماضي.
خامساً: العمــــل علــــى تمكيــــن سيادة دولة القانون والدولة المدنية وتحديد تأثيرات التعصـــب بجميع أشكاله، خاصة أننا نعاني من تأثير ديني عقائدي من مفاصل الصراع الذي يجري حولنا، وتلك التقسيمات السياسية والانقسامات الإثنية والدينية والطائفية التي أصبحت بوادرها واضحة في العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا. وربما يأتي الدور أيضاَ على بعــض دول الخليج. كذلك تداعيات القضية الفلسطينية المستعصية على الحل، وهناك من يعتقد أن خارطة المنطقة ستكون مختلفة عام2020 عما هي عليه اليوم وهذا العامل بالذات يعمق النزوع نحو التطرف عند البعض.
نحن نؤمن أن الدولة المدنية هي الحل في نزع فتيل الاقتتال الطائفي، وأن داعش وغيرها عبارة عن فقاعات سوف تنتهي عندما تحقق مهمتها بتفتيت العالم العربي والإسلامي إلى كيانات دينية متطرفة.
الحضــور الكـــرام،
أمـــا الجانب الثاني الذي يهدد بتعريض الأردن إلى منزلقات وأوضاع صعبة فهو تداعيات القضية الفلسطينية.
فالاحتلل الإسرائيلي لكامل فلسطين وخطط الاحتلال لتهويد الضفة الغربية، والانقسام الفلسطيني الحاد وبقاء الوضع دون حل يضمن الحقوق الوطنية الفلسطينية وإقامة دولته المستقلة، والاحتراب الطائفي في المنطقة كلها أمور لها تاثير مباشر على الأردن، وقد أحدث ذلك حالة من عدم الاستقرار الذي يغلفه الخوف من القادم المجهول. ولا يغيب عن أذهاننا أن الاطماع الصهيوينة التي تمتد بشكل مباشر للاردن من خلال نوايا تهويد الدولة التي تعلنها إسرائيل، وهي تقتنص الفرص لتحقيق ذلك.
أضف الى ذلك التغيرات السريعة السياسية التي تحدث في الشرق الاوسط من استقطابات طائفية واثنية وغيرها. والاتفاق الامريكي الايراني من جملة هذه التغيرات الجذرية التي طرأت على المنطقة. وسيأخذ هذا الاتفاق ابعاداً جيوسياسية بعيدة المدى، ستؤثر على بلدان عربية عديدة.
فقد اعترضت اسرائيل على الاتفاق الأمريكي (الغربي) الإيراني واعتبرته تهديداً لها ويضر بمصالحها، وفشلت في ايقافه، ولهذا، فإنها سوف تطالب بثمن من دول الغرب وأمريكا والثمن ستدفعه فلسطين.
تداعــيات ذلك على الاردن واضحة، حيث يعتبر ذلك تهديداً مباشراً للامن القومي الوطني، وقد لا تكون هنالك أية مظاهر تهديد في الوقت الحاضر، إلا أن إسرائيل تخطط وتضع الهدف وتعمل على تهيئة الظروف التــي تناسبها على مراحل بحيث لا تشعر الأطراف المعنية. إلا والهدف قد تحقق مع مرور الزمن.ثم يتعاملون معه كأمر واقع، وللأسف تبدأ المفاوضات من حيث انتهت إسرائيل فيما حققته على الأرض، نحن في الأردن يجب أل نكون مشاهدين سلبيين، بل علينا أن نكون لاعبين رئيسيين في المحافظــة على أمننا الوطني وعلى الحقوق الوطنية الفلسطينية.
وفي ظل غياب أي مشروع نهضوي عربي، أو خطاب سياسي عربي متفق عليــه موحد في ظل خارطة طريق عربية عليها إجماع، فإن ذلك يسهل على إسرائيل تنفيذ مخططاتها.
خلاصة القول، إن الواجب الضروري هو في تحصين الجبهة الداخلية بإجراء إصلاحات حقيقية تؤدي إلى تقوية المؤسسية. وتبني المفاهيم الخيرة في النفوس، إن إصلاح النفوس أصبح أمراً ملحاً، بعد أن تم التعامل مع النصوص بحد مقبول. ولحماية الجبهة الداخلية من الخطر الاكبر والتحدي الاساسي الذي سوف نواجهه يكمن في معالجة ملفات تخص المواطن وحياته مباشرة. وتتعلق بإجراء الإصلاحات السياسة والاقصادية التي تطمئن المواطن على مستقبله ومستقبل أبنائه، ومحاربة جيوب الفقر والبطالة وان يكون اقتصادنا الغالب بصفته اقتصادا منتجاً وليس اقتصاداً استهلاكياً. وعلينا أن نأخذ بعين الاعتبار أن هنالك تغييرات كبيرة طرأت على تركيبة المواطن الاردني السياسية والمعيشية والاجتماعية والنفسية، وعلى صانعي القرار أن يأخذوا ذلك بالحسبان.