حوار حول المشهد السياسي العام
محاضرة ألقيت بدعوة من حزب التيار الوطني بتاريخ 17/2/2015 في مقر الحزب
حضــرات الأخوة والأخوات الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأشكرحــزب التيار الوطنــي، دعوته الكــريمة لي لهذا اللقاء وأشكر لكم حضوركم الكريم، لتبادل الرأي مع هذه النخبة الطيبة، حول شؤوننا الوطنية في هذه الظروف الدقيقة والخطيرة التي تمر بها المنطقة والإقليم. وقبل الدخول في عرض الرأي والتصور، أترحم وإياكم من جديد، على روح شهيدنا البطل الطيار معاذ الكساسبة، وأدعو الله العلي القدير أن يجعل مثواه الجنة مع الصديقين والأبرار.
الحضور الكريم،
لا يخفى على المراقب والمتابع، أن جلالة الملك عبد الله الثاني، يعمل على تشكيل وصياغة سياسة المملكة بشكل أكثر تركيزاً باتجاهات سياسية جديدة، وعلى صياغة وتنفيذ نهج قيادي سياسي استراتيجي للمملكة، بصورة تخرج من نطاق النهج التقليدي، وتنسجمُ مع المستجدات الهائلة التي يشهدها العالم، والمنطقة على وجه الخصوص.
لقد استثمر جلالته جيداً الأوضاع السائدة في الإقليم، وتزايد ظهور القوى الظلامية والإرهابية التي روعت العالم بدمويتها، بحيث تقدم بجرأة ووضوح بأخذ زمام المبادرة بمحاربة الإرهاب، وبأسلوبأعطى نتائج جدية في اتجاهين. الأول، ضمان سلامة المملكة ودوام أمنها واستقرارها، وسط بحر هائج من العنف والاقتتال والدمار. والثاني، أخذ زمام المبادرة في التصدي لظاهرة الإرهاب، باعتبارها ممارسة شريرة تتم ظلماً باسم الإسلام، والإسلام منها براء، مثلما تشوه عظمة العقيدة، وتهدد نظامنا الاجتماعي والسياسي.ووجهة النظر الرسمية في هذا المضمار هي أننا يجب أن نبادر نحن العرب والمسلمين لقيادة الحرب ضد التطرف والعنف، لا أن يقودها آخرون، ونلحق نحن بهم.
وجاء استشهاد طيارنا البطل معاذ الكساسبة، بمثابة نقطة تحول مهمة في حياتنا السياسية، بحيث يمكنني القول، إن الأردن قبل استشهاد معاذ هوغيره بعد استشهاده. فقـــد أخطـــأ الإرهابيون في حسابـــاتهم، وأظهرت الجريمة النكراء، عفوياً وطبيعياً، أن الأردنيين جميعاً وحدة واحدة تحت رايـة الوطن. وما زال طوفان المشاعر الوطنية الصادقــة، يؤكد على هذه النعمة التي يجب أن نحرص جميعاً على صونها، والبناء عليها، تقوية لصفنا الوطني الواحد، وتحصيناً لجبهتنا الداخلية، ضد أية ممارسات سلبية خارجية. حصل ذلك لأن المواطنين شعروا بأهمية الحفاظ على الأمن والسلم الأهليين أكثر من أي وقت مضى. كما تنادى الناس لدعم القوات المسلحة بكل أجهزتها وإبراز دورها الكبير في حماية الوطن.
وفي تقديري، فإن دور الجيش العربي والقوات المسلحة سوف يتصاعد بشكل مطرد مع النجاح في تدمير وإنهاء داعش. وبالرغم من أن ذلك الموقف قد أدى لوجود قوات أجنبية من جنسيات متعددة وبمهام متنوعة ولكنها غير ظاهرة للرأي العام، لمتابعة الحرب، وتقييــم نتائجها، والاستفادة مما يقدمهالأردن من موقع حيوي وتسهيلات ومعلومات، أقول بالرغم من ذلك كله فإن هذا التواجد قد أصبح أمراً عادياً ولا يحظى إلا بانتقاد خجول.
وفي هذا السياق، أرجو أن أنوه أنه بعد أحداث (11) سبتمبر في نيويورك، قررت إدارة جورج بوش أن تساهم بقوة في محاربة الإرهاب وملاحقته في عقر داره، وطلبت المساعدة من أجهزة أمن عربية وإسلامية في تحقيق ذلك، ووفرت أمريكا لهذه الأجهزة كل التكنولوجيا والتمويل والخبرة لتكون قادرة على ذلك.وبالفعل، فقد أصبحت هذه الأجهزة على مستوى عال من المهنية. تم هذا في الوقت الذي كانت الإدارة المدنية أين؟ تترهل وتتعمق فيها البيروقراطية وقلة الإنتاجية.وظهر هذا التباين عند الناس وأصبحت ثقة المواطن بفعالية الأجهزة الأمنية ومستواها المهني أكبر من ثقتها بالجهاز المدني. وأزعم أن هذه الحقيقة هي أحد أسباب ارتكاز الدولة على المؤسسة العسكرية والأمنية.
نراقب ونتابع جميعاً، تقاطع المصالح الإقليمية والدولية في منطقتنا العربية، وندرك حجم الخطر الذي يهدد الأمة العربية وتماسكها. فالولايات المتحدة مستعدة للسير بعيداً في تغيير سياساتها وتحالفاتها في المنطقة، في سبيل فتح صفحة جديدة من العلاقات مع إيران، مقابل تخليها عن مشروعها النووي إرضاءً لإسرائيل، وتراجع دور دول مجلس التعاون الخليجي ونفطه ولم تعد تعبأ أمريكا كثيراً بخطر أموال النفظ المودعة في بنوكهم. وأصبحت إيران تنعم بالنفوذ وبالقرار في عدة عواصـــم عربية. وتركيـــا هي الأخرى لها تحركات وسياسات ومصالح إستراتيجية. والعرب-كل العرب-يفتقرون إلى مشروع إستراتيجي مشترك مقابل هذه التشابكات. فهم في حالة فرقة وضياع، وهم منشغلون تماماً بمشاكلهم أو بحروبهم الداخلية، فيما يتزايد خطر الارهاب على العرب والنظام السياسي والاجتماعي العربي.
هـــــذا بلا شك، واقعٌ عربيٌ مؤلــم، وهو واقعٌ يقفُ العربُ جميعاً، حائرين أمامه. إذ ليس بأيديهم، حسم أمر الصراع الدائر في بلدان عربية عديدة، مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن. وهنا أزعم أن هذه فرصة مناسبة جداً لإبراز دور الأردن الذي أصبح له القدرة على التحرك وازداد ثقلــــه السياسي بشكل مطرد وسريع، وعلينا أن ننتهز هذه الفرصة بكل ذكاء وحكمة، فهذا الدور الجديد يجب أن تتوفر له أجواء داخلية تختلف عما هي عليه اليوم.
وهنا يبرز في تقديري دور الأردن، الذي وبرغم إمكانياته المادية المحدودة يتصدى لمهمات كبرى بأهلية عالية. فهو يتصدى بشجاعة ووضوح، لمعضلة الإرهاب، دفاعاً عن أمنه الوطني، ودفاعاً عن العقيدة السمحاء، ودفاعاً عن الأمن العربي بمجمله. والأردن يحظى بمكانة مرموقة ورأي يحُترم، لدى سائر الأوساط العالمية، وما تعاطف العالم كله معنا على خلفية استشهاد الطيار الكساسبة، إلا دليل على هذه المكانة.
إن الأردن، وعبر جهود جلالة الملك، يملك وسط هذه الفوضى الإقليمية، متسعاً كبيراً من الوقت والجهد والإرادة، لمواصلة بذل الجهود دعماً للقضية الفلسطينية، التي لم نعد نسمع كثيرين يأتون على ذكرها في العالمين العربي والإسلامي.
السياسة الأردنية وردود الفعل الرسمية على كل هذه التطورات وتداعياتها يجب ربطــها بما أسميه (خصائص المملكة الرابعة)، منذ بداية عهد جلالة الملك حدثت تغييرات في أسلوب العمل وفي الأولويات وأعطي الاقتصاد اهتماماً خاصاً وتم تبني سياسة الاقتصاد الحر والخصخصة. كما جرت إصلاحات دستورية عديدة. وبالفعل فقد ظهرت أيضاً ملامح الشخصية الملكية على الإدارة الأردنية وطبع جلالة الملك عهده بما يؤمن هو به.
مقابل هذا الوضع الجديد، والذي يبدو أنه يسير لصالح الأردن، وتدعيم دوره السياسي في الإقليم وفي العالم، فإن ذلك الوضع لن يبقى دون مواجهة التحديات، وربما الأزمات. ففي الوقت الذي يتخذ فيه الأردن، مــــوقفاً حازماً وجريئاً وواضحاً في مواجهة الإرهاب، ويضع كل قدراته وخبراته للانتصار في هذه الحرب خدمة للعالم والإنسانية، ويقف الأردنيون جميعاً، موحدين تماماً وراء القيادة داعمين لهذا الموقف النبيل، أقول في هذا الوقت بالذات، تجري الانتخابات الإسرائيلية، حيث تبدو فرصة اليمين الإسرائيلي هي الأقوى في تأليف الحكومة القادمة. مما يعني زيادة الاستيطان وإغلاق ملفي القدس وحق العودة نهائياً، واقتسام المسجد الأقصى مرحلياً، تمهيداً لهدمه وبناء الهيكل المزعوم مكانه، والسير قدماً في إعلان يهودية الدولة.
إن خطر تطبيق يهودية الدولة، يتجاوز في تقديري كل المخاطر الأخرى. فنحن جميعاً ندرك أن ذلك سوف يضع الأردن بالذات، في مـــرمى سياسة الترانسفير، وهي مؤامرة واضحة لتصفية القضية الفلسطينية، كما هي تهديد مباشر للأمن الوطني الأردني. وهنا، وبكل مسؤولية أقول: إن خطر يهودية الدولة وتداعياتها وأهدافها لا تقل عن خطر الإرهاب الذي نحاربه اليوم، بكل تصميم وقوة، وعن قناعة تامة.
فماذا نحن فاعلون عندما يأتى الوقت، وهو على الأبواب، الذي تكشر فيه الحكومة الإسرائيلية الجديدة عن أنيابها وسياساتها؟ هل ننتظر الولايات المتحدة لتهب لمساعدتنا، أم ننتظر الاتحاد الأوروبي ومبادراته الخجولة؟ أم نلقي اللوم على رئيس السلطة الوطنية محمود عباس، لأنه غير متجاوب، ولم يقدر ظروف أوباما ليقدم تنازلات إضافية؟ أم نضع اللوم على عدم إجراء المصالحة بين الفصائل الفلسطينية، رُب قائل يقول بأنه كان علينا أن نفوض أوباما للتعامل مع الإسرائيلين لجلبهم إلى طاولة المفاوضات، وإعطائه الوقت الكافي اللازم لذلك، لأنه استطاع كسر العديد من (المحرمات) في الساحة الداخلية الأمريكية، فقد نجح في إعادة العلاقات مع كوبا وأغلق معتقل غوانتنامو، ومنح الجنسية لعشرات الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين، وغير ذلك. وكان من الممكن لو أن محمود عباس أعطى أوباما الوقت الكافــي، لاستطاع اقناع الكونغرس واللوبي اليهودي، بالضغط عـــلى إســـرائيل وجعلها تقــــــدم (التنازلات) وتستأنف المفاوضات.
ثم كيف سيدير الأردن معركته القادمة والمزدوجة ضد الإرهاب، وضد السياسات الإسرائيلية العدوانية وعلى رأسها سياسة الترانسفير؟ دعونا نرى ماذا سنقبض مقابل موقفنا النبيل والجريء والمبدئي ضد الإرهاب.وكيف سيتم حماية الأمن الوطني الأردني من تداعيات استكمال المشروع الصهيوني في فلسطين ثم الاردن.وسوف نتساءل قريباً، هل من الممكن أن يكون الالتزام الأمريكي تجاه الأردن وحمايـــة أمنه أقوى من الالتزام الأمريكي غير المشروط وغير المسبوق تجاه إسرائيل؟
هذان سؤالان كبيران، الإجابة عليهما ليست إجابة أردنية في معظمها، وإنما الإجابة لدى دوائر النفوذ الدولي.فالأردن يتخذ نهجاً مبدئياً نبيلاً وجريئاً في مواجهة الإرهاب، وفي الدعوة القومية لحتمية الانسحاب الإسرائيلي، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، على التراب الوطني الفلسطيني، وعاصتمها القدس. والأردن فوق كل هذا، ليست دولة مارقة أو شريرة، بل دولة راشدة معتدلة، ملتزمة بالقانون الدولي، ولها إسهامات كبرى في حفظ السلام والأمن الدوليين، ومن هُنا، فلابد لقوى النفوذ تلك، من أن تأخذ بوجهة النظر الأردنية، وهي وجهة نظر ثبتت جـــدواها ووجاهتها عبر الأيـــام، وحيال مختلف أزمات المنطقة وحروبها وصراعاتها.
حضرات الأعزاء،
وقبل أن أختم، فأنا أرى دائماً، أن العناية بجبهتنا الداخلية لها أولوية قصوى تتقدم على سائر الأولويات، فلا بد من مواصلة منهج الإصلاح الشامل، وبصورة تعزز ثقة الإنسان الأردني، أينما كان بدولته، وبحكومات دولته. وتتيح الفرص الرحَبة لأوسع مشاركة شعبية في الحياة العامة، تحت مظلة التوافق الوطني، وتفعيلاً لمنهجية دولة المؤسسات والقانون، عبر التطبيـــــق الكامل والعادل للدستور والقانون، نصاً وروحاً وعلى الجميع، وتدعيماً لمبدأ الاعتماد على الذات، وتبديداً لمشكلات الفقر والبطالـــة، والتي تنتج أعباء ومعضلات اجتماعية وأمنية مرهقة، وتعزيزاً لأصالة الوحدة الوطنية الراسخة، ونبذاً لأية ممارسات شاذة قد تهدد هذا الثابت الوطني الأصيل-لا سمح الله، وتطويراً لمخرجات التعليم العام، وإحتراماً للحريات المسؤولة، وتحقيقاً لمبدأي العدالة والمساواة بين الجميع. ولعل إنجاز العديد من التشريعات المتطورة، التي تسهم في الاستجابة لهذه المتطلبات، بات أمراً ضرورياً.
أخيراً وليس آخراً، سيبقى بلدنا بخير بعون الله.ما دمنا صفاً واحداً، ويداً واحدة، مع الوطن، وما دمنا نتحاور بروح إيجابية، نسعى باخلاص، لإبداع حلول مبتكرة لكل مشكلاتنا.
أشكركم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.