Image
Image

سياسي يتذكر الحلقة السابعة عشرة

7 ايار 2014

المصري: الملك لديه قدرة فائقة على التعامل مع معادلات الداخل والخارج

محمد خير الرواشدة

عمان - يستمر رئيس الوزراء الأسبق طاهر المصري اليوم في وصف أهم اللحظات التاريخية في حياة الأردنيين، ويذهب إلى وصف تداعيات مرض الراحل الحسين الأخير، وتسارع الأحداث حتى لحظة وفاته، والبدء بإجراءات التحضير لجنازة القرن.
كما يصف المصري، في سلسلة حلقات "سياسي يتذكر"، كيف استقبلت المملكة خلال مراسم تشييع جثمان الحسين، وعلى مدى أيام العزاء، حشدا أمميا في "جنازة العصر"، من دون وقوع أي خطأ، ومن دون أن يهدد أي خطر حياة أي ملك أو زعيم أو رئيس حضر الجنازة. وزاد في وصف جنازة الراحل رحمه الله؛ بـ"القمة الدولية، التي لم يتغيب عنها سوى الذين حالت ظروفهم القاهرة دون الوصول لها".
وقبل أن يدخل المصري في وصف تلك اللحظات، بعد رحيل الحسين، التي وصفها بالمختلطة، كان قد عرج على أدائه السياسي خلال عضويته في مجلس الأعيان، وهي المرحلة التي شهدت هدوءا نسبيا على الساحة السياسية، مضيفا أن مساحات المناورة في مجلس الأعيان أقل منها في مجلس النواب، خصوصا "أن موقف الأعيان عادة ما يكون فيه توجه واضح والتزام بالخط الرسمي".

لكن ما يكشفه المصري اليوم هو موقفه من مسألة تغيير ولاية العهد في المملكة، من الأمير الحسن بن طلال، إلى الأمير عبدالله بن الحسين، معتبرا بأن هذا القرار "هو قرار الملك وهو رأس السلطات الدستورية".

وأضاف المصري "كنا ننظر في ذلك الوقت إلى أن تغيير ولاية العهد هو شأن يتعلق بالعائلة المالكة، وليس لنا الحق في التعبير عن رفضنا أو قبولنا له"، ويزيد "ما دام الدستور منح هذه الصلاحيات لجلالة الملك، ونحن ندعو وباستمرار إلى احترام الدستور وتطبيقاته، فليس لنا أي تعليق على القرار".

وأعاد المصري التذكير بأن الحسين لم يغير ولاية العهد، عبر تعديل الدستور، كما فعلت أنظمة عربية أخرى، بل إنه "أمعن أكثر في تطبيق أولويات الدستور، الذي أعطى الملك صلاحيات تسمية ابنه الأكبر وليا للعهد".

ويشرح المصري جوهر مفهوم النظام الملكي: بأنه لا يعني التفرد بالقرار، عن سابق قمع وتسلط، بل يعني بأن الملك وبموافقة شعبه وسلطاته الدستورية، يختار خليفته بموجب العقد الاجتماعي الفريد، والذي جرى التوافق عليه منذ كتابته، وهو الدستور الأردني.
وكان المصري كشف في حلقة أمس عن تفاصيل اجتماع الراحل الحسين برؤساء الحكومات السابقين في الديوان الملكي، والحديث المتوتر الذي دار بين الراحل الحسين والمصري.

وبين المصري الأسباب التي أدت لمعاقبته بعدم دخول مجلس الأعيان في العام 1997، وذلك بسبب تبنيه وقوى سياسية معارضة الدعوة لمقاطعة انتخابات مجلس النواب الثالث عشر، نتيجة الإصرار الحكومي على إجرائها، بموجب قانون الصوت الواحد، الذي عارضه محدثنا منذ أول تطبيقاته العام 1993.

اليوم يذهب المصري للبدء بأول الكلام عن مرحلة العهد الجديد، مرحلة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، بعد تسلمه سلطاته الدستورية، وكيف بدأت علاقة المصري بالملك الشاب، ليواصل في حلقة يوم غد، الحديث عن أولى مبادرات الملك في عهده، وكيف أن الأحداث الحدودية والاقليمية والدولية، شكلت سورا كبيرا وتحديا خطيرا أمام بداية عهده، وكيف تجاوز كل تلك السنوات الصعبة، لينتصر استقرار المملكة وأمنها.

وفيما يلي التفاصيل:

  • وصلنا في حلقة امس، الى العودة لادخالك مجلس الاعيان العام 1998، بعد ان استثنيت كرئيس للوزراء سابق، من عضويته عند تشكيله العام 1997. هل كانت لك مواقف مثيرة للجدل في الأعيان، وبطريقة قد يكون لها أثر على ضبط انفعالاتك ومواقفك تجاه السياسات الرسمية؟

- لم يكن هناك ما يستدعي ذلك، فتلك الفترة شهدت هدوءا نسبيا على الساحة السياسية. كما أن مساحات المناورة في مجلس الأعيان أقل منها في مجلس النواب، خصوصا وأن موقف الأعيان عادة ما يكون فيه توجه واضح والتزام بالخط الرسمي، وإن أي مناورة منك في هذه الساحة قد لا يكون لها أي أثر على التصويت في الأعيان.
ثم إن طريقة طرح القضايا ومناقشة التشريعات في مجلس الأعيان غالبا ما تكون بعيدة كل البعد عن التشنج بالمواقف، أو التعصب للآراء، ففي خبرة بعض أعضاء مجلس الأعيان ما يجعل هامش الخلاف ضيقا، مع المبادئ الدستورية ومدى الالتزام بصياغة القانون من روح ونص تلك المبادئ.

لكن الأهم من ذلك كله، وعند دخولي مجلس الأعيان، فقد انشغلنا جميعا بمتابعة صحة الحسين وتطور مرضه، وهي لحظات كانت صعبة في تجربتي السياسية، ولن أنسى تفاصيلها الصعبة، وكل التزم بمشاعر مشتركة بمتابعة صحة الحسين، ومعرفة آخر أخباره مع العلاج.

فالجميع في تلك الأيام، كانت الأولوية عنده صحة الراحل الحسين وعودته، وبالكاد كنا نسمع في المجالس عن مواضيع أخرى، وإن أثير أي موضوع أو فتح أي ملف، فكان الجميع يتجنب الخلاف.


لقد كانت تلك الفترة فترة تاريخية مميزة، فقد توحدت اهتمامات الأردنيين، ولقد عاش الجميع قلق الهم المشترك، لذلك، في المحن والشدائد تبرز دائما قيم الشعب الأردني، وقيم الوحدة الوطنية، وقيم الانتماء للأرض والوطن والمسؤولية، وباعتقادي أن هذه القيم هي التي خففت علينا وطأة مرض الحسين حتى وفاته رحمه الله.

  • كنت عضو مجلس اعيان في العام 1999، عندما حدث تغيير ولاية العهد، من الأمير الحسن إلى ابن الملك الأكبر، الأمير عبد الله بن الحسين؟ كيف تابعت هذا الحدث المهم يومها؟

-لا شك في ذلك. لكن من موقعي كعضو في مجلس الأعيان، فقد كنت بعيدا عن هذا الحدث، والتزمت بمتابعته وحسب، لكن ما أذكره جيدا، هو اننا كنا ننظر في ذلك الوقت إلى أن تغيير ولاية العهد هو شأن يتعلق بالعائلة المالكة، وليس لنا الحق في التعبير عن رفضنا أو قبولنا له، فما دام الدستور منح هذه الصلاحيات لجلالة الملك، ونحن ندعو وباستمرار إلى احترام الدستور وتطبيقاته، فليس لنا أي تعليق على القرار.
ثم إن الراحل الحسين لم يغير ولاية العهد، عبر تعديل الدستور، كما فعلت أنظمة عربية أخرى، بل إنه أمعن أكثر في تطبيق أولويات الدستور، الذي أعطى الملك صلاحيات تسمية ابنه الأكبر وليا للعهد.

وهي الفقرة (أ) من المادة 28 من الدستور، في القسم الأول من السلطة التنفيذية، الملك وحقوقه، والتي جاء فيها "تنتقل ولاية الملك من صاحب العرش إلى أكبر ابنائه سنا ثم إلى أكبر أبناء ذلك الابن الأكبر، وهكذا طبقة بعد طبقة، وإذا توفي أكبر الأبناء قبل أن ينتقل إليه الملك كانت الولاية إلى أكبر أبنائه، ولو كان للمتوفى إخوة، على أنه يجوز للملك أن يختار أحد اخوته الذكور وليا للعهد، وفي هذه الحالة تنتقل ولاية الملك من صاحب العرش إليه". وبالمناسبة هذا التعديل الدستوري جرى في نيسان (إبريل) من العام 1965، ولم يجر في العام 1999، ولم يتم تعديله مع التعديلات الدستورية الأخيرة، التي جرت العام 2011، وهو ما يؤكد بأننا دولة مؤسسات ودستور، وأن دستورنا اتخذ كل الاحتياطات اللازمة في مواجهة أي تحد سياسي خارج عن إرادة الحكم.

وهنا، إذا التزم الراحل الحسين بأولويات الدستور، في اختيار ولي العهد، فقل لي كيف لنا أن نخالف رأيه وقراره؟! فذلك حق مطلق للملك، ولا يملك أحد التأثير عليه.

  • لكن ألم يكن مفاجئا لكم هذا التغيير، هل كانت لديكم معلومات عنه، هل استشار الراحل الحسين أحدا من رجاله السياسيين في الأمر، هل تسربت لكم أي إشارات عن هذا الحدث؟


-إطلاقا؛ فلقد جرى الأمر في حلقة ضيقة داخل العائلة المالكة. ومن المؤكد، أو هكذا أعتقد، بأن هناك مسؤولا أو اثنين، أو أكثر بقليل، يعرفون بالأمر، لكننا كعاملين في السلطات الدستورية، التشريعية أو التنفيذية أو القضائية، لم يكن عندنا أدنى معرفة بالأمر.

لكن إن سألتني عما أذهل المتابعين لهذا التغيير الكبير، في شكل الحكم في الأردن، سواء من تابعه من داخل الأردن، أو من تابعه في دول الإقليم والعالم، فقد أدهشت سلاسة انتقال ولاية العهد، من الأمير الحسن إلى الأمير عبدالله العالم، وذلك لأن الأمر جرى بغاية الترتيب الدستوري، ومن دون أي ارتباك، في أي مستوى من مستويات الحكم والمسؤولية في البلاد.

وهذا المعنى العملي التطبيقي لدولة المؤسسات، وهي الدولة، التي إن حدث فيها أي تغيير، فإن الإجراءات تلتزم بروح الدستور واحكامه، وتطبيق القوانين من دون أي هامش لخطأ أو سوء تقدير.

  • لكن تغيير ولاية العهد فتح باب الإشاعات والأقاويل والتحليلات والتكهنات واسعا، وذلك لأهمية الحدث وغياب التوضيح والتفصيل لحقيقة القرار؟

-بالنسبة لي على الأقل، لم أجد في تغيير ولاية العهد ما يجعلني التفت لهذه الإشاعات، فما دام القرار للحسين، وما دام الأمير الحسن احترم رغبة أخيه الأكبر، وما دامت العائلة المالكة رحبت أيضا بقرار الحسين، واختياره ولي عهده، فلماذا نخوض نحن في الشأن.

هنا، حتى أوضح رأيي في الأمر بطريقة لا لبس فيها، فأنا ما يهمني هو استقرار شكل ومضمون النظام السياسي، ورأس الحكم فيه، أما من يختار الحكم ممثلا له، فهذا شأن تم ترتيبه دستوريا، وحيدت جميع السلطات عن الخوض في تفاصيل مثل هذه القرارات، وتُرك القرار للملك وحده.

وهذا هو جوهر مفهوم النظام الملكي، فهو لا يعني التفرد بالقرار، عن سابق قمع وتسلط، بل يعني بأن الملك وبموافقة شعبه وسلطاته الدستورية، يختار خليفته بموجب العقد الاجتماعي الفريد، الذي ينظم جميع العلاقات على الأرض الأردنية وهو الدستور، وبالضرورة سيكون للملك وجهة نظر، وتقدير في خدمة مصالح الشعب، واستقرار الحكم والنظام، وتلك هي كلمة السر في معادلة الأمن والاستقرار الداخلي في النظام الملكي.

 


  • لم يكن هناك فترة طويلة بين تغيير ولاية العهد من الأمير الحسن للأمير عبدالله، وبين وفاة الراحل الحسين، وذلك حدث أدخل الأردنيين في مساحة حزن، ما زالوا يستذكرونها حتى اليوم؟

-ليس سرا أثر الراحل العظيم الحسين على مشاعر الأردنيين، فهم الذين خرجوا إلى الشوارع جماعات وأفرادا، يبحثون عن أي خبر حول صحة الحسين، وكلنا نتذكر كيف أنه، ورغم الظروف الجوية القاسية، وقف الأردنيون في اعتصام مفتوح على البوابة الرئيسية لمدينة الحسين الطبية، حيث كان الراحل الحسين دخلها بعد عودته الأخيرة من الولايات المتحدة.

بالنسبة لي كان أمرا مهما، وكان حدثا فارقا، وكانت لوعتنا نحن الذين خدمنا بمعية الراحل الحسين، لا يمكن وصفها، ولا التعبير عنها.

ما أذكره جيدا، بأن مشاعر مختلطة تنازعتني يومها، فكيف لي أن أوازن بين موقفي كسياسي مطلوب منه أن يتمالك نفسه أمام الناس، وان يتحمل أي مسؤولية لها علاقة بحدث كبير كموت الحسين، حتى وأنا خارج مواقع المسؤولية، وبين مشاعري كإنسان خدم بمعية الراحل الحسين وتعلق به، وتعلم في مدرسته، وأكاد لا أتخيل، بأن رجلا بقوته وصلابته يهده المرض، أو يكون سببا في وفاته.

قبل وفاة الحسين، رحمه الله، استدعانا رئيس الوزراء، وقتها، فايز الطراونة، حيث جمع رؤساء الحكومات السابقين، وأبلغنا بأن الحسين قد يودعنا خلال ساعات، وعرض أمامنا كل الأوراق الرسمية، للترتيبات الدستورية، لنقل الملك من الراحل الحسين، لابنه الملك عبدالله الثاني، وطلب منا تقديم فتوى دستورية، في مسألة كيف لولي العهد، أن يكون نائبا للملك، والملك في غيبوبته في المدينة الطبية. وأفتى له بها رئيس الوزراء الأسبق زيد الرفاعي دستوريا.

وخلال استعراض الطراونة للأوراق الرسمية، ووضعه لصيغة الملك عبدالله، اقترحت أن نطلق التسمية الرسمية له، وهي جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين.
وانطلق سباق الأحداث، وانتقل الحسين إلى رحمة الله تعالى. كنا أمام استحقاق دستوري مؤسسي، منه تتعلم دول أصول نقل الملك وسلاسة الإجراءات، وضبط ساعة الدولة على بنود وأحكام الدستور والقانون.

فما بين الساعة الثانية عشرة وخمس وأربعين دقيقة ظهرا، لحظة إعلان وفاة الراحل الحسين، وبين الساعة الثالثة عصرا، كان الملك عبدالله الثاني يقسم اليمين الدستورية أمام مجلس الأمة، لتبدأ إجراءات التحضير لجنازة الراحل العظيم.

 


  • وكيف تابعت أحداث الجنازة في ذلك اليوم؟

-لقد جرى الترتيب لجنازة الراحل الحسين، بطريقة مذهلة وفي وقت قصير، ولقد تميزت التشريفات الملكية في تحضيرها لهذا الحدث، ويكاد لم يُسجل أي خطأ في أي إجراء لاستقبال كل هذه الوفود، التي شاركت في الجنازة، وزعماء العرب والعالم الذين حضروا.

ويا لها من لحظات صعبة ومشاعر مختلطة، فقد أدخلنا الراحل الحسين التاريخ، بحراكه وهو حي، وأدخلنا التاريخ ونحن نودع جثمانه، وخلال كل تفاصيل التشييع والدفن وأيام العزاء. فكل هؤلاء الزعماء، على اختلاف مواقفهم وتضاد أفكارهم والصراع السياسي والعسكري بين دولهم، حضروا يومها، ووقفوا على أرض واحدة، تجمعهم مشاعر واحدة، هي العزاء للأردنيين بوفاة الحسين.

بداخلي شعرت بالحزن الشديد، كما شعرت أيضا بزهو الموقف، ولك أن تفصل بينهما كما تشاء، لكن هذه حقيقة مشاعري.

وإذا أردت أن أصف لك أكثر، فجزء كبير من الملوك والزعماء والرؤساء الذين حضروا جنازة الحسين، كنت قد التقيتهم سواء في الفترة التي أمضيتها سفيرا بين الأعوام 1974 وحتى 1983، بين مدريد وباريس ولندن، أو السنوات الخمس التي كنت فيها وزيرا للخارجية، أو وأنا رئيس للوزراء أو رئيس لمجلس النواب، وهم الذين تعرفت عليهم بفضل الحسين، وإذا كانوا يصافحوني فبسبب معرفتهم بأنني كنت في خدمة الحسين، وأعمل بمعيته في مواقع مختلفة، هؤلاء الملوك والرؤساء كانت تفصلنا عن رؤيتهم إجراءات بروتوكولية طويلة، إذا ما طلبنا منهم لقاء رسميا، لكنهم في أقل من 24 ساعة، كانوا موجودين في عمان لحضور جنازة الحسين.
وهم الذين جاءوا احتراما لدور الراحل الحسين، في المنطقة والعالم، واحتراما للقيم التي آمن بها الحسين، وحملها معه طيلة سنوات حكمه، واحتراما لرجل واجه كل التحديات والظروف والصعاب، وبنى دولة المؤسسات والقانون والدستور، وهي شهادة بلغنا إياها ملوك ورؤساء وزعماء دول عريقة، عندما رأوا كيف أن الحسين غادرنا وكيف أن الدستور تحكّم في مفاصل الدولة، فلم يستغرق انتقال الملك لابنه الأكبر أكثر من ثلاث ساعات، وكيف أن الأردن استقبل هذا الحشد الأممي في جنازة العصر، من دون أن يقع أي خطأ، ومن دون أن يهدد أي خطر حياة أي ملك أو زعيم أو رئيس حضر الجنازة. كانت جنازة الراحل الملك الحسين رحمه الله؛ قمة دولية، لم يتغيب عنها سوى الذين حالت ظروفهم القاهرة دون الوصول لها. 


  • وبعدها متى التقيت بالملك عبدالله الثاني لأول مرة، بعد تسلمه سلطاته الدستورية، ملكا للمملكة الأردنية الهاشمية؟

-أعرف الملك عبد الله الثاني منذ كان أميرا، وقد كان عسكريا مشهودا له بالانضباط العسكري، والانخراط بالسلك العسكري، وعلومه وميادينه.

كما أنه زارني بعد تشكيل حكومتي في المنزل، العام 1991، وبارك لي بالموقع، وأبدى إعجابه بطريقة تشكيل الحكومة، التي اعتبرها تقدمية وإصلاحية، وكانت زيارة مهمة على صعيد تعرفي أكثر، وعن قرب على شخصية الأمير عبدالله وقتها.
بعد أن تسلم الملك عبدالله الثاني سلطاته الدستورية، لم التقِ به شخصيا، أو من خلال لقاء خاص، لكن عندما صافحته في حفل تسلمه سلطاته الدستورية، شكرني على تصريحات كنت أدليت بها لتلفزيون "سي إن إن"، وقد قلت فيها، بعيد أداء الملك عبدالله الثاني اليمين الدستورية، ما نصه: "سوف يفاجئكم الملك عبد الله الثاني".
ثم صار جلالة الملك يُلبي دعوات في بيوت شخصيات سياسية، وكانت تلك اللقاءات تهدف  للإجابة عن تساؤلات الملك، حول أولويات المواطن، وكان يوجه أسئلته بصراحة ووضوح، وكان واضحا بأنه يمتلك أجندة إصلاحية في القطاعات الحيوية التي تمس حياة المواطنين.

أذكر بأنني حضرت لقاءين في منزل رجائي المعشر وصالح ارشيدات، وكانت تتسم تلك اللقاءات بالحوار العميق حول مستجدات الساحة السياسية وتفاصيل المشهد الداخلي والخارجي، ورؤية الملك الجديد حيال القضايا الساخنة والأولويات الوطنية.
في واحدة من الجلسات، قدمنا ورقة حول سبل إصلاح الجهاز الإداري، ودخلنا في نقاش مع جلالته حول أهمية هذا الجهاز وضرورة تطويره وتنظيمه وتصويب كل التشوهات والاختلالات الحاصلة فيه، نتيجة الممارسات التي أدت إلى الترهل الكبير الذي أصابه، خصوصا بعد منتصف عقد التسعينيات.

كما أكدنا لجلالته الحاجة الملحة لتطوير التعليم المهني الحقيقي، ودخول هذا المجال من التعليم على خط التخصصات الجامعية، ومن هناك علينا أيضا إعادة النظر بأسس القبول في الجامعات، حتى يصبح التنافس بينها على جودة المخرجات، وهو ما يلبي حاجة السوق من الأيدي العاملة الماهرة والمتعلمة والمؤهلة والمدربة.
بالإضافة لمواضيع لها اتصال بملف المياه وأهمية الخروج باستراتيجية وطنية شمولية لمواجهة هذا المتطلب الحيوي والأساسي، وأن لا ننتظر حتى "نعطش" لنبحث عن الحل.

  • وهل شعرت بأن طريقة الملك عبدالله الثاني في الإدارة والحكم مختلفة عن طريقة والده الراحل الحسين؟

-دخلنا في ذلك الوقت بحالة من الترقب والمتابعة لما سيقوم به الملك الجديد وتصريحاته، وكان لافتا بأنه يريد التغيير، وواضح بأنه يستعجل تحقيق الإصلاحات التي يريد من خلالها أن يقتنع المواطن بجدية نهج الملك الإصلاحي والشامل، وأن لا يبقى هذا الأمر في حدود الشعارات، بل ضرورة أن يتعداه ويبدأ المواطن، يلمس آثار الإصلاح الشامل بسرعة.

لكن ما لمسته بشكل كبير جدا أمرين في شخصيته، فهو كان يعمل على تذويب الحساسيات بين الأردن ودول محددة في الخليج العربي، ولا يريد أن تستمر تلك الحساسيات في التأثير على العلاقات الأردنية مع تلك الدول، وكان واضحا بأنه يحمل أجندة داخلية إصلاحية واضحة ومحددة، ولا يريد أن يكون العمل الإقليمي والعربي والدولي، على حساب تلك الأجندة ومستويات تنفيذها عبر خطة زمنية محكمة.
كما أن الملك عبدالله الثاني كان واضحا في أن أولويته في بداية عهده؛ هي أولوية اقتصادية لناحية تحسين أوضاع المواطن المعيشية، لكنه كان يعرف جيدا حجم التحديات، التي تواجهنا من قلة الموارد على أرضنا، وحتى تذبذب المساعدات الخارجية، كما أراد أن يستعمل التطوير التعليمي في الاستثمار في المورد البشري، بشكل ينعكس على سوق العمل، وهو ما اعتبره أهم محركات الاقتصاد، التي تعالج مشكلتي الفقر والبطالة. عرفنا أن الملك يريد أن تكون مرحلته إصلاحية شاملة لكل القطاعات، ولكن كنا نعلم أيضا بأن هناك قوى محافظة ستحول دون ذلك، وستعيق جهود الملك.

بالنسبة لي، كنت مقتنعا تماما بأن لكل زمان دولة ورجالا، لذلك لم أسع لتقديم نفسي، واكتفيت بالمتابعة من موقعي السياسي، حتى أكون جاهزا لأي نصيحة أو مشورة، دون أن أسجل أي رغبة بالعودة للمسؤولية.

ولا أنكر بأني كنت قلقا عليه في بدايات حكمه، فالملك عبدالله الثاني شخصية عسكرية مميزة، ولا ندري إن كانت إمكاناته الإدارية والسياسية ستساعده بمسؤولياته الجسيمة، وكان حوله مدير المخابرات سميح البطيخي، ورئيس الديوان عبد الكريم الكباريتي، ورئيس الوزراء عبد الرؤوف الروابدة، وهي شخصيات متمرسة بعملها، ولها خبرتها الطويلة سياسيا وأمنيا، لكني خشيت من قدرات هؤلاء، أو أحدهم، على احتواء الملك، وندخل في لعبة معسكرات سياسية، قد يكون لها أثر سلبي على العهد الجديد.

لكن الملك عبدالله الثاني فاجأ الجميع بسرعة فهمه للمعادلات الداخلية والخارجية، والسياسات التي يجب أن يحتاط بها، وكان ديناميكيا في تغييراته، ولم يستجب لأي ضغوط بسهولة، لكن الأحداث داهمتنا جميعا، ودخلنا في متوالية أزمات كونية أثرت على المملكة، وقد جاءت تلك الأحداث تباعا، أحداث 11 سبتمبر العام 2001 والانتفاضة الثانية في الضفة الغربية العام 2002، والاحتلال الأميركي لبغداد العام 2003، وسقوط نظام صدام حسين، وكلها ظروف ضغطت علينا وأثرت كثيرا على أولوياتنا الأمنية والسياسية.

لكن كل ذلك كان يجري وأنا بعيد عن المسؤولية، ولا أستطيع أن أكون شاهدا على تلك الفترة وقراراتها، وبقيت ألتقي الملك عبدالله الثاني كلما استدعى الأمر أن أقابله، أو أن أتقدم بنصيحة حول تقدير الموقف الفلسطيني؛ أوغيره من المواضيع، وتحليلي للمشهد السياسي محليا وإقليميا من منطلق فهمي ومتابعتي لبعض الملفات.

 

Term of use | Privacy Policy | Disclaimer | Accessibility Help | RSS

eMail: info@tahermasri.com Tel: 00962 65900000

Copyright @ 2015 Taher AlMasri the official web site, All Right Reserved

Image